الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن القواعد الفقهية -كما عرفها العلماء- هي أصول ومبادئ كلية في نصوص موجزة تتضمن أحكاماً تشريعية عامة في الحوادث التي تدخل تحت موضوعها.
وقد صاغ الفقهاء قواعد كثيرة بعبارات موجزة تدخل تحتها فروع كثيرة من أبواب مختلفة من الفقه، وألفوا فيها كتباً كثيرة ومن هذه القواعد خمس قواعد متفق عليها، وقصرها بعضهم على أربعة فقط، وهي الأربع الأولى التي سنذكرها -إن شاء الله تعالى، وهذه القواعد هي:
القاعدة الأولى: اليقين لا يزول بالشك.
قال المقري في قواعده: المعتبر في الأسباب والبراءة وكل ما تترتب عليه الأحكام: العلم اليقين، ولما تعذر في أكثر الصور أقيم الظن مقامه لقربه منه وبقي الشك ملغى على الأصل. اهـ.
ومن فروع هذه القاعدة: لزوم البناء على اليقين لمن شك أصلى ثلاثا أو أربعا؟ لأن الأربعة وجبت بيقين ولا تبرأ الذمة إلا بيقين، ولهذا قلنا: اليقين لا يرفع بالشك. ومن فروعها: لزوم البينة على المدعي....
والأصل في هذه القاعدة ما جاء في الصحيحين وغيرهما من أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: في الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة أيقطع الصلاة؟ قال: لا، حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً.
قال الولاتي: وهذه القاعدة تشتمل على قاعدة العمل باستصحاب الأصل، وتندرج تحتها قاعدة: إلغاء الشك في المانع، واعتباره في المقتضي والشرط.
القاعدة الثانية: إزالة الضرر، أو الضرر يزال. أي وجوب إزالة الضرر عمن نزل به، والأصل في هذه القاعدة ما رواه مالك في الموطأ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: لا ضرر ولا ضرار.
قال الولاتي: لأن الشريعة مبنية على جلب المصالح ودفع المفاسد، وتندرج تحت هذه القاعدة، قاعدة: ارتكاب أخف الضررين.
ومن فروعها: شرع الزواجر من الحدود، والضمان، ورد المغصوب، أو ضمانه بالتلف، والتطليق بالإضرار، وبالإعسار..
القاعدة الثالثة: المشقة تجلب التيسير. أي كلما وقعت المشقة حساً جاء التيسير شرعًا. والأصل في هذه القاعدة قوله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]. قال الولاتي: ومن فروعها: الأخذ بالأخف والرخص كجواز القصر والجمع والفطر في السفر....
وقال أيضاً: والمشقة قسمان: قسم لا تنفك عنه العبادة، فلا يوجب تخفيفاً، لأن العبادة قررت معه، كالوضوء في البرد والصوم في الحر... وقسم تنفك عنه وهو ثلاثة أقسام: فإن كان في مرتبة الضروريات عفي عنه إجماعاً كما إذا كان فيه هلاك نفس أو تلف عضو.....
وإن كان في مرتبة التتميمات "التحسينات" لم يعف عنه إجماعاً كما إذا كان فيه مجرد جهد فقط، وإن كان في مرتبة الحاجيات: فمحل خلاف، كما إذا كان فيه مرض خفيف....
القاعدة الرابعة: العادة محكمة، أو العادة معتبرة.
قال الولاتي: إن كان ما تدخل فيه العادة أي عادة العوام القولية والفعلية من الأحكام الشرعية، فهي عاملة فيه أي محكمة فيه: تخصصه إن كان عاماً، وتقيده إن كان مطلقاً، وتبينه إن كان مجملاً. والذي يدخل فيه عادة العوام القولية وتحكم فيه هو ألفاظ الناس في الأيمان والمعاملات من العقود والفسوخ، والاقرارات، والشهادات، والدعاوى؛ وهي في غلبة استعمال اللفظ في معنى غير معناه الأصلي، سواء كان جزئي معناه الأصلي أم لا حتى يصير هو المتبادر إلى الذهن منه عند الإطلاق، ويصير المعنى الأصلي كالمهجور، مثال تخصيص العرف للعام: حمل يمين من حلف ألا يركب دابة على ذوات الأربع فلا يحنث بركوب غيرها من كل ما يدب على وجه الأرض، فلفظ الدابة لغة يشمل كلما يدب على وجه الأرض، لكن العادة القولية خصصته بذوات الأربع.. وهكذا العادة الفعلية.
والأصل في هذه العادة قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199].
وقوله صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة: خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف. والحديث في الصحيحين.
ومن فروعها: تقدير النفقات الواجبة للزوجات والأقارب.... وما هو الأنسب من متاع البيت للرجال، وما هو الأنسب للنساء عند النزاع في ذلك.....
القاعدة الخامسة: الأمور تتبع المقاصد، أو الأمور بمقاصدها.
يعني أن الأمور تتبع المقاصد فإن كان حسنا كان حسنا، وإن كان قبيحاً كان قبيحاً، والأصل في هذه القاعدة: قوله صلى الله عليه وسلم: إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى. رواه البخاري ومسلم.
ومن فروعها: تمييز العبادات من العادات بالقصد، وتمييز مراتب العبادات بالقصد لأن القصد "النية" شرط صحة في العبادات المحضة، وشرط لحصول الثواب في جميع الأعمال.
وتندرج تحت هذه القاعدة قاعده: سد الذرائع إلى الفساد: وقيل: إن قاعدة تبع الأمور للمقاصد، ترجع إلى قاعدة: اليقين لا يرفع بالشك، لأن الشيء إذا لم يقصد فنحن على يقين من عدم حصوله.
قال الولاتي رحمه الله: وهذه القواعد ذكرها القاضي حسين وقال: إن فروع الفقه كلها آيلة إليها، وبحث بعضهم في ذلك فقال: إن في رجوع جميع الفقه إليها تعسفاً، لأن أصوله منتشرة تتضح بالتفصيل، ثم قال: وهذه القواعد الخمس لا خلاف بين العلماء في كونها أصولاً تبنى عليها فروع الشريعة، وإنما الخلاف بينهم في تفصيل ذلك.... ثم قال: وقال الشيخ عز الدين: أحكام الشرع كلها تعود إلى جلب المصالح، ودرء المفاسد. وقال الشيخ الشنقيطي في نشر البنود: ورجوع فروع الفقه إلى هذه الأصول فيه تكلف.... فلو زيدت الأصول التي ترجع إليها فروع الفقه مع وضوح الدلالة لزادت على المائتين.
والحاصل أن القواعد الخمس التي اتفق عليها علماء الفقه والأصول والتي لا خلاف بينهم في كونها أصولاً تبنى عليها الفروع هي:
1- اليقين لا يرفع بالشك.
2- وجوب إزالة الضرر.
3- المشقة تجلب التيسير.
4- العادة محكمة، أو العرف معتبر.
5- الأمور تتبع المقاصد.
وما نقلناه عن العلامة الولاتي هو من كتابه "شرح أصول المذهب"، وقد نظم ابن أبي قفة هذه القواعد بقوله:
وهذه خمس قواعد ذكر أن فروع الفقه فيها تنحصر
هي اليقين حكمه لا يرفع بالشك، بل حكم اليقين يتبع
وضرر يزال والتيسير مع مشقة يدور حيثما تقــــــع
وكل ما العادة فيه تدخل من الأمور فهي فيه تعمـــل
وللمقاصد الأمور تتبــــع وقيل ذي إلى اليقين ترجع
وقيل للعرف، وذي القواعد خمستها لا خلف فيها وارد
والله أعلم.