الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالعبد له إرادة في الآخرة كما كان له إرادة في الدنيا، بل في الحديث أن بعضهم اشتهى الزرع، ففي صحيح البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوما يحدث ـ وعنده رجل من أهل البادية ـ أن رجلا من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع فقال له: ألست فيما شئت؟ قال: بلى ولكني أحب أن أزرع، قال: فبذر، فبادر الطرف نباته واستواؤه واستحصاده، فكان أمثال الجبال، فيقول الله: دونك يا ابن آدم فإنه لا يشبعك شيء.
وقال عليه الصلاة والسلام: المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة واحدة كما يشتهي. رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني.
وقد بينا في الفتوى رقم: 216193، أن المؤمن ينال في الجنة ما يشتهيه ما لم يكن من المستحيلات.
وكل شيء في الجنة أطيب مما في الدنيا، فهم لا يشتهون أدنى مما في الدنيا، لكن يقنع الواحد منهم بدرجته، جاء في تفسير أبي السعود: ولعل كل فريق منهم ـ يعني من أهل الجنة ـ يقتنع بما أتيح له من درجات النعيم، ولا تمتد أعناق هممهم إلى ما فوق ذلك من المراتب العالية، فلا يلزم الحرمان ولا تساوي مراتب أهل الجنان. انتهى.
وفي الحديث: ويجلس أدناهم ـ وما فيهم من دني ـ على كثبان المسك والكافور، وما يُرون أن أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلسا. رواه الترمذي وابن ماجه، وصححه ابن حبان، وضعفه الألباني.
قال القاري في المرقاة: ما يُرون بصيغة المجهول من الإراءة، والضمير إلى الجالسين على الكثبان أي: لا يظنون ولا يتوهمون أن أصحاب الكراسي أي: أرباب المنابر بأفضل منهم مجلسا حتى يحزنوا بذلك، لقولهم على ما في التنزيل: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن { فاطر: 34} بل إنهم واقفون في مقام الرضا، ومتلذذون بحال التسليم بما جرى القضاء. انتهى.
ولذلك لا يكون بين أهل الجنة عداوة، ولا غل، قال تعالى: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ {الأعراف: 43}.
جاء في زاد المسير لابن الجوزي: والرابع: أنها في صفة أهل الجنة إذا دخلوها.... وقال ابن عباس: أول ما يدخل أهلُ الجنةِ الجنةَ، تعرض لهم عينان، فيشربون من إحدى العينين، فيُذهب الله ما في قلوبهم من غلٍّ وغيره مما كان في الدنيا ثم يدخلون إلى العين الأخرى، فيغتسلون منها، فتُشرق ألوانهم، وتصفو وجوههم، وتجري عليهم نضرة النعيم. انتهى.
وننصحك بعدم الاجتراء على الغيب، والتوسع في الألفاظ فيه مثل: برمجة.. ويُكتفى بالألفاظ الواردة كلفظ الهداية ونحوه وهم في الدارين لا يخرجون عن مشيئة الله، فهم فاعلون بمشيئة الله، وانظر الفتوى رقم: 35375.
إلا أن أهل الجنة لا يكلفون بعمل، فليست الجنة دار ابتلاء، حتى الذكر هو نعيم لا تكليف، وانظر الفتوى رقم: 198501.
قال العراقي في طرح التثريب: السابعة عشرة ـ قال أبو العباس القرطبي: هذا التسبيح ليس عن تكليف وإلزام، لأن الجنة ليست بمحل تكليف، وإنما هي محل جزاء، وإنما هو عن تيسير وإلهام، كما قال في الرواية الأخرى: يلهمون التسبيح والتحميد، والتكبير كما يلهمون النفس ـ ووجه التشبيه أن تنفس الإنسان لابد له منه ولا كلفة عليه ولا مشقة في فعله وآحاد التنفسات مكتسبة للإنسان وجملتها ضرورية في حقه، إذ يتمكن من ضبط قليل الأنفاس ولا يتمكن من جميعها فكذلك يكون ذكر الله سبحانه وتعالى على ألسنة أهل الجنة، وسر ذلك أن قلوبهم قد تنورت بمعرفته، وأبصارهم، قد تمتعت برؤيته، وقد غمرتهم سوابغ نعمته، وامتلأت أفئدتهم بمحبته، فألسنتهم ملازمة ذكره، ورهينة شكره، فإن من أحب شيئا أكثر من ذكره. انتهى.
والله أعلم.