مدى وجوب إنفاق الأب على أبنائه
9-12-2002 | إسلام ويب
السؤال:
هل على الأب (وهو ميسور الحال) أن يلزم ابنته بأن تتحمل نفقات الأسرة بحجة أنه ينفق على أبنائه من زوجته الثانية وعلى أسرة أخيه؟ مع العلم أن أولاد أخيه ذكور وأحدهم يعمل بوظيفة ميسورة وأخبركم بأن أبي منفصل عن أمي ولي أخ شقيق وما زال في مراحل الدراسة.
الإجابــة:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن إنفاق الرجل على أولاده المحتاجين واجب بالإجماع، قال ابن المنذر رحمه الله: وأجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم، على أن على المرء نفقة أولاده الأطفال الذين لا مال لهم؛ ولأن ولد الإنسان بعضُه،ُ وهو بعضً والدهِ، فكما يجب عليه أن يُنفق على نفسه وأهله كذلك على بعضه وأصلِه. اهـ المغني 8/171 .
والأصل في وجوب النفقة على الولد الكتابُ والسنة والإجماع، أما الإجماع فقد تقدم، وأما الكتاب فقول الله تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [الطلاق:6]. فأوجب أجر رضاع الولد على أبيه، وقال سبحانه: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:233].
ومن السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ هند بنت عتبة : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف. رواه البخاري ومسلم.
وعن وهب قال: إن مولى لعبد الله بن عمرو قال له: إني أريد أن أقيم هذا الشهر هاهنا ببيت المقدس، فقال له: تركت لأهلك ما يقوتهم هذا الشهر ؟ قال: لا، قال: فارجع إلى أهلك فاترك لهم ما يقوتهم، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت. رواه أحمد وأبو داود.
فهذه النصوص الشرعية وغيرها تدل على وجوب أن ينفق الرجل على أهل بيته والقيام بمصالحهم، فلا يجوز للوالد التقصير في النفقة على الأولاد ولا تضييعها، بل يلزمه القيام بها على الوجه الأكمل.
وقد اتفق العلماء على أن الوالد لا تلزمه نفقة ولده الذي له مال يستغني به ولو كان هذا الولد صغيراً، واختلفوا في لزوم النفقة على الوالد لابنه البالغ الفقير القادر على الكسب، فأكثر العلماء يرون أنه لا تلزمه نفقته لقدرته على الكسب.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: عن والد غني وله ولد معسر فهل يلزم الوالد الغني أن ينفق على ابنه المعسر؟
فأجاب رحمه الله: نعم، عليه نفقةُ ولدِهِ بالمعروف إذا كان الولدُ فقيراً عاجزاً عن الكسب والوالدُ مُوسراً. اهـ مختصر من الفتاوى الكبرى 3/363، ومجموع الفتاوى 34/105 .
ومفهوم قول شيخ الإسلام: إذا كان الولد فقيراً عاجزاً عن الكسب أن غير العاجز عن الكسب - وهو القادر لا تجب نفقته.
واختلفوا أيضاً في البنت التي بلغت الحلم هل يلزم والدها النفقة عليها أم لا ؟
فذهب أكثر العلماء إلى أنه يلزمه أن ينفق عليها حتى تتزوج -وهو الأقرب والله أعلم- لعجزها عن التكسب، ولأن إلزامها بالتكسب يفضي إلى مفاسد عظيمة.
هذا مجمل ما يفهم من كلام العلماء من الحنفية في المبسوط 5/223، والمالكية في المدونة 2/263، والشافعية في الأم 8/340، والحنابلة في المغني 8/171 .
ولا يجوز للمسلم أن يضيّع النفقة على أولاده بحجة أنه ينفق على أولاد أخيه، قال صلى الله عليه وسلم: وابدأ بمن تعول. رواه مسلم.
ومن حقوق الأولاد التي ينبغي رعايتها حق العدل بين الأولاد، وهذا الحق أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم. رواه البخاري ومسلم فلا يجوز تفضيل أولاده من الزوجة الثانية بالإنفاق عليهم وحرمان أولاد الزوجة الأولى.
ومما قد يتعلق به البعض - في موضوع السؤال من قول المصطفى - صلى الله عليه وسلم: أنت ومالُك لأبيك. رواه ابن ماجه، قال في الزوائد: إسناده صحيح ورجاله ثقات على شرط البخاري وله طرق وشواهد يصح بها. انظر فتح الباري 5/211، ونصب الراية 3/337.
فالجواب أن اللام في الحديث: ليست للملك بل للإباحة.
قال ابن القيم : واللام في الحديث ليست للملك قطعاً، ومن يقول هي للإباحة أسعد بالحديث وإلا تعطلت فائدته ودلالته. إعلام الموقعين 1/116 .
ومما يدل على أنها ليست للملك أن الابن يرثه أولاده وزوجته وأمه، فلو كان ماله ملكاً لوالده لم يأخذ المال غير الأب.
وليست الإباحة على إطلاقها، بل هي بشروط أربعة:
الشرط الأول: ألا يكون في أخذه ضرر على الابن، فإن كان في أخذه ضرر كما لو أخذ غطاءه الذي يتغطى به من البرد، أو أخذ طعامه الذي يدفع به جوعه، فإن ذلك لا يجوز للأب، لقوله صلى الله عليه وسلم: لا ضرر ولا ضرار.
الشرط الثاني: أن لا تتعلق به حاجة الابن، فلو كان عند الابن سيارة يحتاجها في ذهابه وإيابه وليس لديه من الدراهم ما يمكنه أن يشتري بدلها، فليس له أن يأخذها بأي حال.
الشرط الثالث: أن لا يأخذ المال مِن أحد أبنائه ليعطيه لابنٍ آخر؛ لأن ذلك إلقاء للعداوة بين الأبناء، ولأن فيه تفضيلاً لبعض الأبناء على بعض.
قال ابن قدامة رحمه الله في المغني: ولأبٍ أن يأخذ من مال ولده ما شاء، ويتملكه مع حاجة الأب إلى ما يأخذه ومع عدمها، صغيراً كان الولدُ أو كبيراً، بشرطين: أحدهما: أن لا يُجحف بالابن، ولا يضر به، ولا يأخذ شيئاً تعلقت به حاجتُهُ. الثاني: أن لا يأخذ من مال ولده فيُعطيه الآخر، نص عليه أحمد، وذلك لأنه ممنوعٌ من تخصيص بعض ولده بالعطية من مال نفسه، فلأن يُمنع من تخصيصه بما أخذ من مال ولده الآخر أولى.
الشرط الرابع: أن تكون عند الأب حاجة للمال الذي يأخذه من ولده، وقد جاء مصرَّحاً بهذا الشرط في بعض الأحاديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أولادكم هبة الله لكم يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ [الشورى:49]. فهم وأموالهم لكم إذا احتجتم إليها. رواه الحاكم والبيهقي.
والحديث صححه الألباني في السلسة الصحيحة برقم: 2564 وقال: وفي الحديث فائدة فقهية هامة وهي أنه يبيِّن أن الحديث المشهور أنت ومالُك لأبيك. ليس على إطلاقه، بحيث إن الأب يأخذ من مال ابنه ما يشاء، كلا، وإنما يأخذ ما هو بحاجة إليه. والله أعلم.
وعلى ذلك لا يجوز للوالد - وهو ميسور الحال - أن يلزم بنته بالإنفاق على نفسها وأخيها، ولا أن يقدم على ذلك النفقة على أولاده من زوجته الثانية أو أولاد أخيه لما بينّاً.
وقد ثبتت أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم تفيد الحث على النفقة على الأهل، وأنها من الأعمال الصالحة عند الله تعالى، كما جاء في حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أنفق المسلم نفقة على أهله وهو يحتسبها كانت صدقة له. رواه البخاري.
وعن ابن عمر قال: إنما سماهم الله أبراراً لأنهم بروا الآباء والأبناء، كما أن لوالدك عليك حقّاً كذلك لولدك عليك حقّاً. انظر الأدب المفرد: 94 .
فينبغي لهذا الأب أن يتقي الله تعالى وأن يعدل بين أبنائه، وأن ينفق عليهم مما أعطاه الله تعالى.
والله أعلم.