الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنشكرك على حرصك على البحث عن الحق، وتجردك إلى الله تعالى، ونفيدك أن الصراع الواقع في كثير من بلاد الإسلام لا يمكن أن يصدق عاقل أن كلا من الطرفين يسعى لحماية الدين والوطن، فمن الواضح أن بعض الأطراف هي التي تتبنى الإسلام ومصلحة الوطن، وأن بعضها يحارب الإسلام ويسعى لمصالح خاصة، ولو تصورنا بعيدا عن الواقع الذي نعيشه أن هناك طائفتين صادقتين في حبهما للدين وفي الاهتمام به والعمل لنصرته، فإذا صدر خلاف بينهما وكان مع كل واحدة منهما علماء مجتهدون فالواجب عليهم في الأصل أن يتحاوروا حتى يتوصلوا للحق عن طريق عرض الأدلة الشرعية لا عن طريق تحكيم السلاح، وإذا كان هناك حاكم مسلم فيجب على أهل الحل والعقد من علماء المسلمين وعقلائهم مناصحته والتحريض له على العمل بالشرع والحكم به وقيادة سفينة الأمة به، ولا يجوز الخروج عليه ما لم يكفر، لما في الصحيحين وغيرهما عن عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان.
والكفر البواح هو الظاهر الذي لا يحتمل تأويلا، وفي صحيح مسلم وغيره عن عوف بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم، قيل: يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئا تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يدا من الطاعة.
ولا يجوز لطائفة من الناس أن يبايعوا شخصا آخر ليقود طائفة تقاتل الطائفة الطائعة للإمام العادل، بل الواجب هو منع حصول ذلك ونصر الإمام العادل، وأما الإمام الجائر: فإن خرج عليه إمام عدل وأمكن انتصاره عليه من دون جلب مفسدة عظيمة فيجب نصر العدل وإزالة الجائر، وإن كان ذلك لا يتحقق إلا بفتنة عظيمة تحصل بين المسلمين فيجب درء تلك المفسدة بالصبر على جور الجائر، ولو أنه اقتتل رئيسان ظالمان فلا تجوز المشاركة مع واحد منهما ولا نصر واحد منهما، بل يتركان ينتقم الله بأحدهما من الآخر، وذلك لما في الحديث: إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما.
وفي الحديث: إنه ستكون هنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان.
ومثله حديث: من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم، فاقتلوه. روى ذلك كله مسلم في صحيحه.
قال الإمام النووي: فيه الأمر بقتال من خرج على الإمام، أو أراد تفريق المسلمين ونحو ذلك، ونهيه عن ذلك، فإن لم ينته قوتل، وإن لم يندفع شره إلا بقتله قتل. اهـ.
وجاء في فتح الباري لابن حجر: نقل ابن التين عن الداودي قال: الذي عليه العلماء في أمراء الجور أنه إن قدر على خلعه بغير فتنة ولا ظلم وجب، وإلا فالواجب الصبر، وعن بعضهم لا يجوز عقد الولاية لفاسق ابتداء، فإن أحدث جورا بعد أن كان عدلا فاختلفوا في جواز الخروج عليه، والصحيح المنع، إلا أن يكفر، فيجب الخروج عليه.
وجاء فيه أيضا: وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه، لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء، ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح، فلا تجوز طاعته في ذلك، بل تجب مجاهدته لمن قدر عليها.
ونقل الخرشي المالكي في شرحه للمختصر عند قول خليل: الباغية فرقة خالفت الإمام لمنع حق، أو لخلعه، فللعدل قتالهم ـ قال: سحنون: روى ابن القاسم عن مالك: إن كان الإمام مثل عمر بن عبد العزيز وجب على الناس الذب عنه والقتال معه، أما غيره فلا، دعه وما يراد منه، ينتقم الله من الظالم بالظالم ثم ينتقم من كليهما.
وقال الدسوقي المالكي: يحرم الخروج على الإمام الجائر، لأنه لا يُعزل السلطان بالظلم والفسق وتعطيل الحقوق بعد انعقاد إمامته، وإنما يجب وعظه، وعدم الخروج عليه إنما هو تقديم أخف المفسدتين إلا أن يقوم إمام عادل فيجوز الخروج عليه وإعانة ذلك القائم. اهـ.
وجاء في شرح عليش للمختصر: قال سحنون: إن كان غير عدل, فإن خرج عليه عدل وجب الخروج معه ليظهر دين الله تعالى، وإلا وسعك الوقوف إلا أن يريد نفسك، أو مالك فادفعه عنهما, ولا يجوز لك دفعه عن الظالم، ابن عرفة: لو قام على الإمام من أراد إزالة ما بيده فقال الصقلي روى عيسى عن ابن القاسم عن مالك ـ رضي الله تعالى عنهم ـ إن كان مثل عمر بن عبد العزيز وجب على الناس الذب عنه والقيام معه, وإلا فلا، ودعه وما يراد منه، ينتقم الله تعالى من ظالم بظالم، ثم ينتقم من كليهما. اهـ.
ويحرم التقاتل بين المسلمين للأغراض الدنيوية، وإذا حصل ذلك بين الناس فيخشى على المتقاتلين من النار، لما في الصحيحين من حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث الثقفي ـ رضي الله عنه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، فقلت يارسول الله هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه.
وهذا الحديث مقيد بمن قاتل لأجل الدنيا وشهواتها، ولا يتناول القتال الحاصل بين الصحابة الكرام، لأنهم مجتهدون مصيبهم مأجور مرتين، ومتأولهم معذور مأجور مرة، فقد قال الحافظ ابن حجر في الفتح: أخرج البزار في حديث: القاتل والمقتول في النارـ زيادة تبين المراد، وهي: إذا اقتتلتم على الدنيا فالقاتل والمقتول في النار.
ويؤيده ما أخرجه مسلم بلفظ: لا تذهب الدنيا حتى يأتي على الناس زمان لا يدري القاتل فيم قتل، ولا المقتول فيم قتل، فقيل: كيف يكون ذلك؟ قال: الهرج، القاتل والمقتول في النار.
قال القرطبي: فبين هذا الحديث أن القتال إذا كان على جهل من طلب الدنيا، أو اتباع هوى فهو الذي أريد بقوله: القاتل والمقتول في النار ـ قلت: ومن ثم كان الذين توقفوا عن القتال في الجمل وصفين أقل عددا من الذين قاتلوا، وكلهم متأول مأجور ـ إن شاء الله ـ بخلاف من جاء بعدهم ممن قاتل على طلب الدنيا، ومما يؤيد ما تقدم ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة رفعه: من قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبة، أو يدعو إلى عصبة، أو ينصر عصبة، فقتل فقتلته جاهلية. اهـ.
وبذلك يتبين أن هذا الحديث لا يتناول ما جرى بين الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ في موقعة الجمل وصفين، لأنهم كانوا في ذلك القتال مجتهدين ومتأولين، والأولى بنا الآن ألا نخوض في تلك الأحداث التي انقضت، وأن نلتزم بقولة عمر بن عبد العزيز المشهورة: تلك فتنة عصم الله منها سيوفنا, فلنعصم منها ألسنتنا.
وكما قال شيخ الإسلام: فلنصن ألسنتنا عما حصل بينهم، كما صان الله أيدينا عن ذلك.
وقال النووي: اعلم أن الدماء التي جرت بين الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ليست بداخلة في هذا الوعيد، ومذهب أهل السنة والحق إحسان الظن بهم، والإمساك عما شجر بينهم، وتأويل قتالهم، وأنهم مجتهدون متأولون لم يقصدوا معصية، ولا محض الدنيا، بل اعتقد كل فريق أنه المحق، ومخالفه يأثم، فوجب عليه قتاله ليرجع إلى الله، وكان بعضهم مصيباً وبعضهم مخطئاً معذوراً في الخطأ، لأنه اجتهاد، والمجتهد إذا أخطأ لا إثم عليه. اهـ.
وراجع الفتويين رقم: 188403، ورقم: 214609.
والله أعلم.