الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنكار هذا الشخص لهذه الرواية محتمل لوجهين:
1 - أن يكون هذا الشخص قد أنكر وجود هذه الرواية من أصلها لأنه جهلها, وهذا من قبيل رفع الواقع, وهو محال, ويكون الردّ على مثل هذا الإنكار بإثبات وجود الرواية في بطون الكتب.
2 - أن يكون مصبّ إنكار هذا الشخص هو القراءة نفسها, أي التشكيك في صحتها, وليس في أصل وجودها, والحكم أن مثل هذا الإنكار أنه محرم لا يجوز، قال ابن الجزري في النشر: كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالًا وصح سندها، فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها, ولا يحل إنكارها، بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن, ووجب على الناس قبولها، سواء كانت عن الأئمة السبعة، أم عن العشرة، أم عن غيرهم من الأئمة المقبولين. اهـ
وقد تظاهرت نصوص الأئمة في تكفير من أنكر حرفًا من القرآن:
قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: من كفر بحرف من القرآن فقد كفر به كله كما في حكاية المناظرة في القرآن مع بعض أهل البدعة لابن قدامة.
وقال عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -: من كفر بحرف منه فقد كفر به أجمع. كما في شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي.
وقال عبدالله بن المبارك: من كفر بحرف من القرآن فقد كفر، ومن قال: لا أؤمن بهذه اللام فقد كفر كما في فتاوى ابن تيمية.
ويقول ابن بطة في الإبانة الصغرى: من كذب بآيةٍ أو بحرفٍ من القرآن، أو ردّ شيئًا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كافر.
وقال القاضي عياض في الشفا: وكذلك من أنكر القرآن، أو حرفًا منه، أو غيّر شيئًا منه، أو زاد فيه كفعل الباطنية والإسماعيلية، أو زعم أنه ليس بحجة للنبي صلى الله عليه وسلم، أو ليس فيه حجة ولا معجزة، كقول هشام الغوطي، ومعمر الضمري، أنه لا يدل على الله، ولا حجة فيه لرسوله ... لا محالة في كفرهما بذلك القول. وكذلك من أنكر شيئًا مما نص فيه القرآن - بعد علمه - أنه من القرآن الذي في أيدي الناس ومصاحف المسلمين، ولم يكن جاهلًا، ولا قريب عهد بالإسلام ...
ومحل الكفر هنا، إذا علم كونها قرآنًا، وأصر على إنكاره، بخلاف من لم يعلم؛ قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى في معرض كلامه عن الخطأ المغفور: أَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ بَعْضَ الْكَلِمَاتِ أَوْ الْآيَاتِ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ بِالنَّقْلِ الثَّابِتِ كَمَا نُقِلَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا أَلْفَاظًا مِنْ الْقُرْآنِ كَإِنْكَارِ بَعْضِهِمْ: {وَقَضَى رَبُّكَ} وَقَالَ: إنَّمَا هِيَ وَوَصَّى رَبُّك, وَإِنْكَارِ بَعْضِهِمْ قَوْلَهُ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} وَقَالَ: إنَّمَا هُوَ مِيثَاقُ بَنِي إسْرَائِيلَ, وَكَذَلِكَ هِيَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ, وَإِنْكَارِ بَعْضِهِمْ {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا} إنَّمَا هِيَ أَوَلَمْ يَتَبَيَّنْ الَّذِينَ آمَنُوا, وَكَمَا أَنْكَرَ عُمَرُ عَلَى هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ لَمَّا رَآهُ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأَهَا, وَكَمَا أَنْكَرَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ عَلَى بَعْضِ الْقُرَّاءِ بِحُرُوفِ لَمْ يَعْرِفُوهَا حَتَّى جَمَعَهُمْ عُثْمَانُ عَلَى الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ.
وعلى هذا, فأفراد القراءات التي لم تبلغ حدّ التواتر لا يكفرّ منكرها، بل لا يكفر منكر القراءة المتواترة إلا إذا علم التواتر, فأنكر بعد ذلك.
قال الزرقاني في مناهل العرفان: إنما يحكم بالتكفير على من علم تواترها ثم أنكره, والشيء قد يكون متواترًا عند قوم غير متواتر عند آخرين, وقد يكون متواترًا في وقت دون آخر. اهـ
ولعل السائل حصل له الاشتباه من جهة أن بعضهم أورد شبهة عدم تواتر القراءات الثلاث المتممة للعشر، وهي: (أبو جعفر، يعقوب، خلف) والجواب: جاء في كتاب مقدمات في علم القراءات لمحمد أحمد مفلح القضاة، وأحمد خالد شكرى، ومحمد خالد منصور
(اختصرت منه ، وزدت عليه): قال عبد الوهاب بن علي السبكي (ت 771 هـ): «والقول بأن القراءات الثلاث غير متواترة في غاية السقوط، ولا يصح القول به ممن يعتبر قوله في الدين» (نقله عنه ابن الجزري في منجد المقرئين ), وقد عمد ابن الجزري إلى ذكر أسماء عدد من أئمة القراءة قرؤوا بالقراءات الثلاث من زمنه إلى أن وصل إلى الأئمة الثلاثة، والعدد في كل طبقة منها لم يقلّ عن الحد الأعلى للعدد الذي ذكره بعض العلماء لقبول التواتر، وعلق بقوله: « فهذه ست عشرة طبقة, كل طبقتين من بعد الأولى كطبقة واحدة, فرقت بينهما للتجاذب, واقتصرت فيها على من تحققت أنه قرأ بالثلاث الباقية منها مما بلغني عن القراء، ولعمري ما فاتني لكثير لأني لم أذكر إلا من تحققت أنه قرأ بها, وكلهم مذكورون مترجمون في كتابي "طبقات القراء", فثبت من ذلك أن القراءات الثلاث متواترة تلقاها جماعة من جماعة مستحيل تواطؤهم على الكذب، وإذا كانت كذلك فليس تواترها ولا تواتر السبع مقتصرًا عند أهلها فقط, بل هي متواترة عند كل مسلم سواء قرأ القرآن أو لم يقرأه؛ لأن ذلك معلوم من الدين بالضرورة لأنها أبعاض القرآن» (ابن الجزري، منجد المقرئين ), هذا بالإضافة إلى أن قراءات الأئمة الثلاثة لا تخرج عن قراءة السبعة إلا في حروف يسيرة، وأبو جعفر من شيوخ نافع، وقرأ يعقوب على سلام الطويل، وقرأ سلام على أبي عمرو وعاصم، أما خلف فقراءته لم تخرج عن قراءة الكوفيين (السالم محمد محمود الشنقيطي، الرد على من طعن في القراءات الثلاث), وأما أسانيد القراء فهي أسانيد آحاد؛ لأنه يستحيل إحصاء جميع من قرأ بهذه القراءة أو تلك، فهي قراءات ذائعة في مختلف البلدان وفي عصور متوالية، وليس مراد هذه الأسانيد الحصر بل التوثيق، ومع ذلك فلو جمعت الأسانيد المتداولة بين القراء, واستخرج منها أسماء الأئمة الذين قرؤوا بالقراءات في العصور المتعددة لبلغ العدد المطلوب للتواتر وزاد عليه، ونسبة القراءة إلى نافع مثلًا لا يعني اقتصارها عليه, بل هو المختار لتمثيل هذه القراءة من بين الآلاف الكثيرين الذين يقرؤون بها، ويرجع السبب في اختيار هؤلاء دون غيرهم إلى ملازمتهم تلك القراءة، وتجردهم للإقراء وإفنائهم أعمارهم في هذا العلم، مع الثقة والعدالة وحسن السيرة، فإضافة القراءة إليهم: «هي إضافة اختيار ودوام ولزوم لا إضافة اختراع ورأي واجتهاد» (ابن الجزري في النشر). ولمزيد الفائدة راجع الفتوى: 11163، ففيها التعريف بالقراء.
والله أعلم.