الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد ذكر المفسرون عدة معاني للكلمات التي ابتلى الله - عز وجل - بها إبراهيم - عليه الصلاة والسلام -، منها: أنها شرائع الإسلام، أو أنها خصال عشر من سنن الإسلام، أو أنها مناسك الحج خاصة، ومنهم من قال: الكلمات التي ابتلى بهن إبراهيم ربه: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ {البقرة: 127 - 129} وقد رجح ابن كثير - رحمه الله - أَنَّ الْكَلِمَاتِ تَشْمَلُ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ؛ فعليه لا يتعين أن المقصود بالكلمات الشرائع فقط.
ولعل من حكم التعبير عن هذه المعاني بالكلمات ما ذكره ابن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير، حيث قال - رحمه الله -: وَالْكَلِمَاتُ: الْكَلَامُ الَّذِي أَوْحَى اللَّهُ بِهِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ؛ إِذِ الْكَلِمَةُ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى, وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْجُمَلُ, كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [الْمُؤْمِنُونَ: 100]، وَأَجْمَلَهَا هُنَا؛ إِذْ لَيْسَ الْغَرَضُ تَفْصِيلَ شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ, وَلَا بَسْطَ الْقِصَّةِ وَالْحِكَايَةِ, وَإِنَّمَا الْغَرَضُ بَيَانُ فَضْلِ إِبْرَاهِيمَ بِبَيَانِ ظُهُورِ عَزْمِهِ وَامْتِثَالِهِ لِتَكَالِيف, فَأَتَى بِهَا كَامِلَةً, فَجُوزِيَ بِعَظِيمِ الْجَزَاءِ، وَهَذِهِ عَادَةُ الْقُرْآنِ فِي إِجْمَالِ مَا لَيْسَ بِمَحَلِّ الْحَاجَةِ، وَلَعَلَّ جَمْعَ الْكَلِمَاتِ جَمْعُ السَّلَامَةِ - وهي من الجموع التي تدل على القلة - يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا أُصُولُ الْحَنِيفِيَّةِ, وَهِيَ قَلِيلَةُ الْعَدَدِ كَثِيرَةُ الْكُلْفَةِ، فَلَعَلَّ مِنْهَا الْأَمْرَ بِذَبْحِ وَلَدِهِ، وَأَمَرَهُ بِالِاخْتِتَانِ، وَبِالْمُهَاجَرَةِ بِهَاجَرَ إِلَى شَقَّةٍ بَعِيدَةٍ, وَأَعْظَمُ ذَلِكَ أَمْرُهُ بِذَبْحِ وَلَدِهِ إِسْمَاعِيلَ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِ فِي الرُّؤْيَا، وَقَدْ سُمِّيَ ذَلِكَ بَلَاءٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ [الصافات: 106]. انتهى.
ومن الأبحاث المناسبة في معرفة حكم وأسرار ألفاظ القرآن ما كتبه الدكتور فاضل بن صالح السامرائي في بعض كتبه، ككتاب: (لمسات بيانية في نصوص من التنزيل)، وكتاب (أسرار البيان في التعبير القرآني)، وكتاب (بلاغة الكلمة).
والله أعلم.