الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فأقصى ما اطلعنا عليه في كتب الفقه المالكي عن الإمام مالك في أكثر مدة للحمل أنها: سبع سنين, وروي عنه: أربع سنين، وروي: خمس, وروي: ست, قال الإمام أبو عمر ابن عبد البر في الكافي: خمس سنين .. هذا أكثر الحمل، وقد روي عن مالك: أربع سنين، وروي عنه ست, وسبع، والأول أصح عنه. اهـ.
وقد حكى القرطبي عند تفسير قوله تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد: 8] عن الإمام مالك رواية بأنه لا حد لأكثره, ولكن لم نطلع على هذه الرواية في كتب الفقه المالكي, وجاء في المدونة: قلت: أرأيت إذا طلق الرجل امرأته ثلاثًا, أو طلاقًا يملك الرجعة، فجاءت بولد لأكثر من سنين, أيلزم الزوج الولد أم لا؟ قال: يلزمه الولد في قول مالك إذا جاءت بالولد في ثلاث سنين, أو أربع سنين, أو خمس سنين, قال ابن القاسم: وهو رأيي في الخمس سنين, قال: كان مالك يقول ما يشبه أن تلد له النساء إذا جاءت به يلزم الزوج, قلت: أرأيت إن جاءت به بعد الطلاق لأكثر من أربع سنين جاءت بالولد لست سنين, وإنما كان طلاقها طلاقًا يملك الرجعة أيلزم الولد الأب أم لا؟ قال: لا يلزم الولد الأب ههنا على حال؛ لأنا نعلم أن عدتها قد انقضت, وإنما هذا حمل حادث, قال مالك: إذا جاءت بالولد لأكثر مما تلد له النساء لم يلحق الأب. اهـ.
وقال ابن رشد في بداية المجتهد: الذين أوجبوا اللعان في وقت الحمل اتفقوا على أن له نفيه في وقت العصمة، واختلفوا في نفيه بعد الطلاق، فذهب مالك إلى أنه له ذلك في جميع المدة التي يلحق الولد فيها بالفراش، وذلك هو أقصى زمان الحمل عنده، وذلك نحو من أربع سنين عنده، أو خمس سنين، وكذلك عنده حكم نفي الولد بعد الطلاق إذا لم يزل منكرًا له. اهـ.
فعلى مذهب مالك لا تقبل دعوى هذه المرأة بعد طلاقها باثنتي عشرة سنة, بل ويقام عليها الحد، جاء في المدونة: قلت: فإن قعدت إلى أقصى ما تلد له النساء, ثم جاءت بالولد بعد ذلك لستة أشهر فصاعدًا، فقالت المرأة: هو ولد الزوج، وقال الزوج: ليس هذا بابني, قال: القول قول الزوج، ليس هو له بابن؛ لأنا قد علمنا أن عدتها قد انقضت، وهذا الولد إنما هو حمل حادث، قلت: ويقيم على المرأة الحد؟ قال: نعم. اهـ.
وكلام الفقهاء في مسألة أكثر مدة الحمل قد تباين تباينًا عظيمًا، فمن قائل: لا حد لأكثره، كأبي عبيد, والشوكاني, واختاره الشنقيطي - كما ذكر السائل - ومن قائل: سبع سنين، ومن قائل: ست، وهكذا إلى قائل بسنة واحدة، كمحمد بن عبد الحكم، واختاره ابن رشد, ومنهم من قال: بأن أقصى مدة للحمل هي المدة المعهودة تسـعة أشـهر، وبه قال داود وابن حزم من الظاهرية, وقد ذكر الحافظ ابن عبد البر هذا الخلاف في الاستذكار ثم قال: وهذه مسالة لا أصل لها إلا الاجتهاد, والرد إلى ما عرف من أمر النساء. اهـ.
والمعتمد عند جمهور الفقهاء أن المرأة لو طلقت فجاءت بولد بعد أكثر مدة الحمل، فإن الولد لا يلحق بالزوج، دون الحاجة إلى اللعان، قال ابن قدامة في المغني: إن وضعته لأكثر من أربع سنين من حين الطلاق، وكان بائنًا، انتفى عنه بغير لعان؛ لأننا علمنا أنها علقت به بعد زوال الفراش, وإن كان رجعيًا، فوضعته لأكثر من أربع سنين منذ انقضت العدة، فكذلك؛ لأنها علقت به بعد البينونة. اهـ.
وقال الشيرازي في التنبيه في الفقه الشافعي: من تزوج بامرأة فأتت بولد يمكن أن يكون منه لحقه نسبه, ولا ينتفي عنه إلا بلعان، وإن لم يمكن أن يكون منه بأن يكون له دون عشر سنين, أو كان مقطوع الذكر والأنثيين جميعًا ... أتت بولد لأكثر من أربع سنين من حين اجتمع معها انتفى عنه من غير لعان. اهـ. وقد سبق النقل بذلك عن الإمام مالك.
وأما عند الحنفية فأكثر مدة الحمل عندهم سنتان, فلا يثبت نسب ولد المطلقة إن جاءت به بعد هذه المدة، قال الشبلي في حاشيته على تبيين الحقائق: الحكم في المبانة أن نسب ولدها يثبت إلى سنتين من وقت الطلاق. اهـ.
وجاء في لسان الحكام: المبتوتة يثبت نسب ولدها إذا جاءت به لأقل من سنتين، وإن جاءت به لتمام سنتين من وقت الفرقة لم يثبت؛ لأن الحمل حادث بعد الطلاق. اهـ.
وفي خصوص قول السائل: إن الحدود تدرأ بالشبهات، وكل ما يدرأ الحد يلحق معه النسب: فجوابه أن الشبهة التي تدرأ الحد يشترط أن لا تكون ضعيفة، وضابط كون الشبهة قوية أو ضعيفة ـ في حال رجوع الشبهة إلى خلاف العلماء ـ هو النظر في درجة القول المخالف الذي بنى عليه صاحب الشبهة، فإن كان قولًا قويًا فالشبهة قوية، وإن كان قولًا ضعيفًا أو شاذًا فالشبهة ضعيفة, وليس من شك في أن القول بأن أمد الحمل لا حد لأقصاه قول ضعيف, ثم إنه ليس كل قول أو خلاف ما يعتبر شبهة تدرأ الحد؛ بدليل أنه في المذهب المالكي يحد واطئ المستأجرة, وهذا يخالف مذهب الإمام أبي حنيفة جاء في المغني لابن قدامة: وإذا استأجر امراة لعمل شيء فزنى بها أو استأجرها ليزني بها وفعل ذلك، أو زنى بامرأة ثم تزوجها أو اشتراها فعليهما الحد, وبه قال أكثر أهل العلم, وقال أبو حنيفة: لا حد عليهما في هذه المواضع؛ لأن ملكه لمنفعتها شبهة دارئة للحد, ولا يحد بوطء امرأة هو مالك لها, ولنا عموم الآية والاخبار, ووجود المعنى المقتضي لوجوب الحد, وقولهم: إن ملكه منفعتها شبهة ليس بصحيح.
وهنا ننبه على أن إلحاق النسب بالباطل فيه مفاسد كبيرة، قال العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام: إذا أتت الزوجة بالولد لدون أربع سنين من حين طلقها الزوج بعد انقضاء عدتها بالأقراء فإنه يلحقه, مع أن الغالب الظاهر أن الولد لا يتأخر إلى هذه المدة, فإن قيل: إنما لحقه لأن الأصل عدم الزنا وعدم الوطء بالشبهة والإكراه، قلنا: وقوع الزنا أغلب من تأخر الحمل إلى أربع سنين إلا ساعة واحدة، وكذلك الإكراه والوطء بالشبهة، ولا يلزم على ذلك حد الزنا؛ فإن الحدود تسقط بالشبهات، بخلاف إلحاق الأنساب فإن فيه مفاسد عظيمة، منها: جريان التوارث، ومنها: نظر الولد إلى محارم الزوج، ومنها: إيجاب النفقة, والكسوة, والسكنى، ومنها: الإنكاح, والحضانة. اهـ.
والله أعلم.