الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالإسلام دين الفطرة السوية، والحقيقة البينة، والعلم النافع، والعقل الناصع، فلا يمكن لإنسان سويٍّ منصف باحث عن الحقيقة، محب للعلم، معظم للعقل، يعرف الإسلام ثم لا يرضاه دينا، والمرء إن ولد بين أبوين مسلمين ولم تتلوث فطرته نشأ مؤمنا بالله تعالى، ولا يزال إيمانه في ازدياد ما ازداد من العلم النافع والعمل الصالح، ومثل هذا لا يعتريه شك أصلا وغاية ما يمكن أن يحصل معه إما وسوسة وإما شبهة، وعلاج الأولى وجواب الثانية يجده في كلام الله تعالى، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو كلام الراسخين من أهل العلم، وأما من ولد بين أبوين كافرين فانحرفت فطرته عن الإسلام، فأفضل الطرق لدعوته للإسلام، وإيصال الحق والحقيقة إليه ومحاجته وإقناعه: هي الطرق المستفادة من الوحي كتابا وسنة، وراجع في ذلك الفتويين رقم: 111062، ورقم: 18262.
وأما أن نسلك معه طريقة الفلاسفة من أمثال ديكارت الفرنسي الذي أثبت وجود نفسه عن طريق الشك فقال:أنا أشك فأنا أفكر، فأنا إذن موجود!! فمثل هذه الفلسفة إن وجدت بسبب الجمود الكنسي وانحراف العقائد وزيغ الأفهام، فقام الفلاسفة الأوربيون بالثورة على الكنيسة ونقض مسلماتها من خلال الاعتماد على العقل وإعلاء مكانته، فهذا له ما يبرره، أما في الإسلام فلا، فإنه دين يعلي من شأن العقل ويرفع من مكانته، ويخاطبه بالتكاليف الشرعية، ويجعله مناطا لها، ويجعل العلاقة بينه وبين الدين علاقة وفاق ووئام، فلا يمكن أن يتعارض صريح المعقول مع صحيح المنقول، فدور العقل في الدين: التفكر في النصوص وتدبر الوحي المعصوم، لا التحكم في النصوص ولا تحكيم العقل فيها، والحقيقة أن هذا من وسطية الإسلام في موضوع إعمال العقل ودوره، فلا هو يجعله أصلا توزن به أحكام الشرائع وأمور الإيمان، ولا أهمله وأغفله ولم يلتفت إليه، وقد تعرض شيخ الإسلام ابن تيمية لهذا فقال: لما أعرض كثير من أرباب الكلام والحروف وأرباب العمل والصوت عن القرآن والإيمان تجدهم في العقل على طريق كثير من المتكلمة يجعلون العقل وحده أصل علمهم ويفردونه ويجعلون الإيمان والقرآن تابعين له، والمعقولات عندهم هي الأصول الكلية الأولية المستغنية بنفسها عن الإيمان والقرآن، وكثير من المتصوفة يذمون العقل ويعيبونه ويرون أن الأحوال العالية والمقامات الرفيعة لا تحصل إلا مع عدمه ويقرون من الأمور بما يكذب به صريح العقل ... وكلا الطرفين مذموم، بل العقل شرط في معرفة العلوم وكمال وصلاح الأعمال وبه يكمل العلم والعمل، لكنه ليس مستقلا بذلك، بل هو غريزة في النفس وقوة فيها بمنزلة قوة البصر التي في العين، فإن اتصل به نور الإيمان والقرآن كان كنور العين إذا اتصل به نور الشمس والنار، وإن انفرد بنفسه لم يبصر الأمور التي يعجز وحده عن دركها وإن عزل بالكلية كانت الأقوال والأفعال مع عدمه أمورا حيوانية قد يكون فيها محبة ووجد وذوق كما قد يحصل للبهيمة، فالأحوال الحاصلة مع عدم العقل ناقصة والأقوال المخالفة للعقل باطلة، والرسل جاءت بما يعجز العقل عن دركه، لم تأت بما يعلم بالعقل امتناعه، لكن المسرفون فيه قضوا بوجوب أشياء وجوازها وامتناعها لحجج عقلية بزعمهم اعتقدوها حقا وهي باطل وعارضوا بها النبوات وما جاءت به، والمعرضون عنه صدقوا بأشياء باطلة ودخلوا في أحوال وأعمال فاسدة وخرجوا عن التمييز الذي فضل الله به بني آدم على غيرهم، وقد يقترب من كل من الطائفتين بعض أهل الحديث تارة بعزل العقل عن محل ولايته، وتارة بمعارضة السنن به. اهـ.
وقال الدكتور عيسى عبده: إن الإسلام لا يفرض على القوة العاقلة في الإنسان حالة من الجمود والتعطيل، بل على العكس من ذلك، إنه يدعو إلى إعمال العقل حيث ينبغي له أن يعمل، ومجاله واسع في هذا الوجود المشهود في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار، وفيما خلق الله من شيء، أما أن يتطاول العقل ليحكم على القواعد الآمرة والناهية التي تحكم السلوك، أو يحاول أن يجيء من عنده بأسس نظرية يقيم عليها الحكم المعين فإذا انهارت هذه الأسس بقي الحكم معلقاً حتى يصل العقل إلى غيرها، نقول: أما هذا الذي يطيب لبعض الباحثين فهو عندنا إثم كبير. اهـ.
وأخيرا ننبه على خطورة فلسفة الشك الديكارتية، فمؤداها يؤول إلى فلسفة السفسطائيين القدامى، قال السفاريني في عقيدته: وكل معلوم بحس وحِجى ... فنكره جهل قبيح في الهجا.
قال الشيخ ابن عثيمين في شرحه: كل شيء معلوم بالحس أو بالعقل فإن إنكاره جهل قبيح، ويسمى مثل هذا الإنكار مكابرة، وهذا يرد به على السوفسطائية، وهم الذين ينكرون الحقائق والمحسوسات، ويقولون: كل شيء فهو شك، وقال بعضهم: جزمك بأن كل شيء فهو شك، هو أيضاً شك، فإذا قلت: أنا أشك، قلنا: وهذا شك، إذا قلت: أنا أشك بأني أشك، قلنا أيضاً: وهذا شك، وهلم جرا، فهؤلاء ينكرون حتى الحقائق، حتى إنه يكلمك ويخاطبك، ويقول: أنا لا أدري هل أنا أنت أو أنت أنا؟! وهذا موجود، ويقال: إنهم إذا أرادوا النوم جميعاً ربطوا في رجل كل واحد خيطاً يخالف خيط الآخر حتى إذا صحا لا يغلط، ويظن نفسه رفيقه، وهذا شيء عجيب، ويذكر عنهم أشياء عجيبة غير ذلك، فنقول: هؤلاء لا شك قالوا قولاً قبيحاً، لأن هذا يؤدي إلى أن يشكوا حتى في الله وفي السموات وفي الأرضين، حتى في كل شيء، وهو كذلك، فهم يشكون في كل شيء، ثم إن بعضهم يقول: ما دمت جزمت بالشك فأنا شاك به، وحينئذٍ لا يمكن أن أصل إلى يقين أبداً، وكذلك الذي ينكر ما ثبت بالعقل، فإذا قيل له: كل حادث فلابد له من محدث، قال: لا أسلم بهذا، فنقول له: من القبيح أن تنكر شيئاً معلوماً بالضرورة من العقل، ويعتبر هذا منه مكابرة .. ولذلك فنحن نقول: إن الذين ينكرون المحسوسات جهال، وجهلهم قبيح، والذين ينكرون العقليات التي ليست وهميات أيضاً جهال، وجهلهم قبيح، وقد قلت: العقليات الصريحة دون الوهميات، لئلا يحتج علينا المعتزلة والأشاعرة والجهمية وغيرهم، الذين سلكوا تحكيم العقل في الأمور الغيبية، حتى في صفات الله، حيث قالوا: لا نقبل إلا ما أملت علينا عقولنا، فنقول: هذه العقول التي زعمتموها هي عقول وهمية وخيالات لا أصل لها، لأن العقل الصريح لا يمكن أن يناقض النقل الصحيح من الكتاب والسنة أبداً، وهذه قاعدة مطردة، ومعنى قولنا: العقل الصريح أي الخالص من دائين عظيمين، وهما: الشبهة والشهوة، ولا أعني شهوة الفرج، بل أعني شهوة الإرادة، فالشبهة ألا يكون عنده علم، والشهوة ألا يكون له إرادة صالحة، لأن كل الانحرافات عن الحق لا تخرج عن أحد هذين السببين. اهـ.
وقد سبق لنا بيان دور العقل مع النقل في الفتويين رقم: 39932، ورقم: 69219، والعلاقة بين العقل والفطرة في الفتوى رقم: 131838، وضابط إعمال العقل في الفتوى رقم: 126077، وأنه لا يمكن للدين الحق أن يخالف العقل في الفتوى رقم: 20458 وأن تحكيم العقل في أحكام الشرع زيغ وضلال في الفتوى رقم: 23028، والفرق بين الفلسفة وبين الفكر الإسلامي في الفتوى رقم: 15514.
والله أعلم.