الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالقاعدتان الأوليان من القواعد المتفرعة عن قاعدة: العادة محكمة ـ والمعتبر في العادة ما تعارفه الناس مما لم ينكره الشرع ومن أدلة اعتبار العادة قول الله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ {الأعراف:199}.
قال ابن الفرس: معناه اقضِ بكل ما عرفته النفوس مما لا يرده الشرع, وهذا أصل القاعدة الشرعية في اعتبار العرف، وتحتها مسائل كثيرة لا تحصى. اهـ.
وقال المرداوي في التحبير شرح التحرير: وللقاعدة أدلة أخرى غير ذلك منها: قوله تعالى: خذ العفو وأمر بالعرف {الأعراف: 199} قال: ابن السمعاني: المراد ما يعرفه الناس ويتعارفونه فيما بينهم، قال ابن عطية: معناه: كل ما عرفته النفوس مما لا ترده الشريعة .... وكل ما تكرر من لفظ المعروف في القرآن نحو: وعاشروهن بالمعروف {النساء: 19} فالمراد ما يتعارفه الناس من مثل ذلك الأمر. اهـ.
وتغير الأحكام في القاعدة الثانية مخصوص بالأحكام المبنية على العرف والعادة، فهذه هي التي تتغير بتغير الزمان والمكان والحال، وأما الحكم الثابت بنص من الشارع فلا يتغير بالعرف ولا عبرة بجريان أمر الناس على مخالفة أمر الشارع وعدم مراعاتهم للضوابط الشرعية، كما قال العلامة محمد مولود:
فالعرف إن صادم أمر الباري * وجب أن ينبذ بالبراري
إذ ليس بالمفيد جري العيد * بخلف أمر المبدئ المعيد.
وجاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام: إن الأحكام التي تتغير بتغير الأزمان هي الأحكام المستندة على العرف والعادة، لأنه بتغير الأزمان تتغير احتياجات الناس, وبناء على هذا التغير يتبدل أيضا العرف والعادة، وبتغير العرف والعادة تتغير الأحكام بخلاف الأحكام المستندة على الأدلة الشرعية التي لم تبن على العرف والعادة فإنها لا تتغير، مثال ذلك: جزاء القاتل العمد القتل، فهذا الحكم الشرعي الذي لم يستند على العرف والعادة لا يتغير بتغير الأزمان, أما الذي يتغير بتغير الأزمان من الأحكام فإنما هي المبنية على العرف والعادة, كما قلنا ....اهـ.
وأما دليل القاعدة الثالثة: يغتفر في التابع ما لا يغتقر في المتبوع ـ فهو ما ثبت من اتفاق العلماء على جواز البيع للناقة الحامل فجاز بيع حملها معها تبعا لها مع أنه لا يجوز بيع الجنين وحده، لأن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن بيع حبل الحبلة، كما في الحديث المتفق عليه، وفي الحديث: نهى عن بيع المضامين والملاقيح وحبل الحبلة. رواه البزار وذكر المناوي في الفيض أن له شاهدا من حديث عبد الله بن عمر ونقل عن ابن حجر أنه قواه.
وروى ابن أبي عاصم: نهى عن بيع ما في ضروع الماشية قبل أن تحلب وعن الجنين في بطون الأنعام وعن بيع السمك في الماء وعن المضامين والملاقيح وحبل الحبلة وعن بيع الغرر، قال ابن بطال في شرح صحيح البخاري: يدخل في عقد البيع أشياء لو أفردت بالبيع لم يجز بيعها مفردة وتجوز في البيع تبعا لغيرها، من ذلك أنه يجوز بيع الأمة والناقة حاملتين، ولا يجوز عند أحد من الأمة بيع الجنين دون أمه، لنهيه عليه السلام عن بيع حبل الحبلة، وإنما لم يجز إفراد الجنين بالبيع، لأنه من بيع الغرر المنهي عنه. اهـ.
وجاء في طرح التثريب للعراقي: قال النووي في شرح مسلم: اعلم أن بيع الملامسة والمنابذة وحبل الحبلة وبيع الحصاة وعسب الفحل, وأشباهها من البيوع التي جاء فيها نصوص خاصة هي داخلة في النهي عن بيع الغرر ولكن أفردت بالذكر ونهي عنها، لكونها من بيعات الجاهلية المشهورة، قال: والنهي عن بيع الغرر أصل عظيم من أصول البيوع ويدخل فيه مسائل كثيرة غير منحصرة وقد تحتمل بعض الغرر تبعا إذا دعت إليه حاجة كالجهل بأساس الدار وكما إذا باع الشاة الحامل والتي في ضرعها اللبن فإنه يصح البيع، لأن الأساس تابع للظاهر من الدار، ولأن الحاجة تدعو إليه فإنه لا يمكن رؤيته، وكذا القول في حمل الشاة ولبنها، وكذلك أجمع العلماء على جواز أشياء فيها غرر حقير منها: أنهم أجمعوا على صحة بيع الجبة المحشوة وإن لم ير حشوها ولو بيع حشوها بانفراده لم يجز, وأجمعوا على إجارة الدار والدابة والثوب ونحو ذلك شهرا مع أن الشهر قد يكون ثلاثين يوما وقد يكون تسعة وعشرين, وأجمعوا على جواز دخول الحمام بالأجرة مع اختلاف الناس في استعمالهم الماء وفي قدر مكثهم, وأجمعوا على جواز الشرب من السقاء بالعوض مع جهالة قدر المشروب واختلاف عادة الشاربين، قال: وعكس هذا أجمعوا على بطلان بيع الأجنة في البطون والطير في الهواء، قال العلماء: مدار البطلان بسبب الغرر، والصحة مع وجوده على ما ذكرناه هو أنه إن دعت حاجة إلى ارتكاب الغرر ولا يمكن الاحتراز عنه إلا بمشقة أو كان الغرر حقيرا جاز البيع, وإلا فلا، وما وقع في بعض مسائل الباب من اختلاف العلماء في صحة البيع فيها وفساده كبيع العين الغائبة مبني على هذه القاعدة فبعضهم يرى أن الغرر حقير فيجعله كالمعدوم فيصحح البيع، وبعضهم يراه ليس بحقير فيبطل البيع. والله أعلم. انتهى.
والله أعلم.