الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الحماسة ينبغي أن يصحبها حسن الظن بالله أن يحقق للداعية مراده، ولا بأس أن يكون المسلم قوي الحجة عند الحوار من دون شدة في مواجهة المعارض ومن دون تكبر وتحامل عليه، فإن ذلك أدعى لقبول كلامه، ولا يسوغ أن يصاب المسلم الداعي بخيبة أمل إن لم يستجب له الناس، بل ينبغي أن يستحضر أنه يقوم بأمر الله تعالى في دعوة الناس إلى الله تعالى بالحكمة وجدالهم بالحسنى وليس مكلفا بقبولهم، فإن الأنبياء وهم أفضل خلق الله يجيء بعضهم يوم القيامة ولم يتبعه أحد، ففي الصحيحين من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد.... الحديث.
ولا حرج في كونه يعزي نفسه ويقول: ربما لا يريد الله .. الله هو الهادي.. ولكن لا يسوغ أن يحمله هذا على الزهد والاستسلام للواقع المنحرف، بل ينبغي أن يواصل الدعوة ويتحلى بالصبر في هذا الطريق اقتداء بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ثم ببقية أولي العزم من الرسل، فقد قال الله تعالى مخاطباً رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ {الأحقاف: 35}.
ولنا أسوة في صبر نوح عليه الصلاة والسلام على دعوة قومه إلى الحق مع عنادهم وابتعادهم عن قبول ما يدعوهم إليه من عبادة الله وتوحيده، حيث قال: قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً* فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً* وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً* ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً* ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً {نوح:5ـ 9}.
وأما أن يعزو العجز والتقصير لنفسه، في كونه لم يقنع الناس ولم يفهمهم فلا حرج في هذا، وينبغي أن يكون هذا دافعا له لبذل مزيد من الجهد.
وأما تطهير النفس من أمراض رؤية النفس والكبر، فهو أمر متعين وضروري جدا فرؤية النفس هي الإعجاب بها وهو سبب للهلاك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: .... وثلاث مهلكات: هوى متبع، وشح مطاع، وإعجاب المرء بنفسه. رواه البزار والبيهقي وحسنه الشيخ الألباني.
وقد ذكرنا علاج الكبر والعجب في الفتوى رقم: 151803.
والأفضل للداعية وغيره من ناحية الربانية أن يجمع بين مراقبة الله تعالى ومحاسبة النفس وحملها على الإخلاص في العمل وإتقانه حتى يجمع بين الإحسان بمعنييه، فإن معنى الإحسان في الأصل يراد به الإتقان والإحكام.... كما قال الله تعالى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ {السجدة:7}.
وكما قال الله تعالى: هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ {الرحمن:60}.
قال أهل التفسير: أي ما جزاء من أتقن عمله وأحسنه في الدنيا إلا أن يحسن إليه في الآخرة.
وقد يطلق الإحسان ويراد به مراقبة الله أثناء أداء العبادة، فقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإحسان بقوله: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. رواه مسلم.
وقد أجاد ابن قدامة في مختصر منهاج القاصدين حيث قال: وينبغي أن يراقب الإنسان نفسه قبل العمل وفي العمل، هل حركه عليه هوى النفس، أو المحرك له هو الله تعالى خاصة؟ فإن كان الله تعالى أمضاه وإلا تركه، وهذا هو الإخلاص. قال الحسن: رحم الله عبداً وقف عند همه، فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخر، فهذه مراقبة العبد في الطاعة وهو أن يكون مخلصاً فيها، ومراقبته في المعصية تكون بالتوبة والندم والإقلاع، ومراقبته في المباح تكون بمراعاة الأدب، والشكر على النعم، فإنه لا يخلو من نعمة لا بد له من الشكر عليها، ولا يخلو من بلية لا بد من الصبر عليها، وكل ذلك من المراقبة.
والله أعلم.