الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد لخص العلامة ابن عاشور في مقدمة تفسيره مقاصد القرآن فقال : المقاصد الأصلية التي جاء القرآن لتبيانها بحسب ما بلغ إليه استقراؤنا ثمانية أمور :
الأول : إصلاح الاعتقاد وتعليم العقد الصحيح . وهذا أعظم سبب لإصلاح الخلق ، لأنه يزيل عن النفس عادة الإذعان لغير ما قام عليه الدليل ، ويطهر القلب من الأوهام الناشئة عن الإشراك والدهرية وما بينهما ، وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى: فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب. فأسند لآلهتهم زيادة تتبيبهم ، وليس هو من فعل الآلهة ولكنه من آثار الإعتقاد بالآلهة .
الثاني : تهذيب الأخلاق. قال تعالى: وإنك لعلى خلق عظيم. وفسرت عائشة رضي الله تعالى عنها لما سئلت عن خلقه صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن . وفي الحديث الذي رواه مالك في الموطأ بلاغا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بعثت لأتمم مكارم حسن الأخلاق. وهذا المقصد قد فهمه عامة العرب بله خاصة الصحابة، وقال أبو خراش الهذلي مشيرا إلى ما دخل على العرب من أحكام الإسلام بأحسن تعبير :
فليس كعهد الدار يا أم مالك ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل
وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل سوى العدل شيئا فاستراح العواذل
أراد بإحاطة السلاسل بالرقاب أحكام الإسلام . والشاهد في قوله وعاد الفتى كالكهل .
الثالث : التشريع وهو الأحكام خاصة وعامة . قال تعالى: إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله. وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله. ولقد جمع القرآن جميع الأحكام جمعا كليا في الغالب، وجزئيا في المهم ، فقوله: تبيانا لكل شيء. وقوله : اليوم أكملت لكم دينكم. المراد بهما إكمال الكليات التي منها الأمر بالاستنباط والقياس . قال الشاطبي لأنه على اختصاره جامع والشريعة تمت بتمامه ولا يكون جامعا لتمام الدين إلا والمجموع فيه أمور كلية .
الرابع : سياسة الأمة وهو باب عظيم في القرآن القصد منه صلاح الأمة وحفظ نظامها كالإرشاد إلى تكوين الجماعة بقوله: واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها. وقوله: إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء. وقوله: ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم. وقوله: وأمرهم شورى بينهم .
الخامس : القصص وأخبار الأمم السالفة للتأسي بصالح أحوالهم قال: نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن ، وإن كنت من قبله لمن الغافلين. أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده. وللتحذير من مساويهم قال: وتبين لكم كيف فعلنا بهم. وفي خلالها تعليم ، وكنا أشرنا إليها في المقدمة الثانية .
السادس : التعليم بما يناسب حالة عصر المخاطبين ، وما يؤهلهم إلى تلقي الشريعة ونشرها وذلك علم الشرائع وعلم الأخبار وكان ذلك مبلغ علم مخالطي العرب من أهل الكتاب . وقد زاد القرآن على ذلك تعليم حكمة ميزان العقول وصحة الاستدلال في أفانين مجادلاته للضالين وفي دعوته إلى النظر ، ثم نوه بشأن الحكمة فقال: يؤتي الحكمة من يشاء ، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا. وهذا أوسع باب انبجست منه عيون المعارف، وانفتحت به عيون الأميين إلى العلم . وقد لحق به التنبيه المتكرر على فائدة العلم ، وذلك شيء لم يطرق أسماع العرب من قبل ، إنما قصارى علومهم أمور تجريبية ، وكان حكماؤهم أفرادا اختصوا بفرط ذكاء تضم إليه تجربة وهم العرفاء فجاء القرآن بقوله: وما يعقلها إلا العالمون. ( و ) هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ( وقال ): ن والقلم. فنبه إلى مزية الكتابة .
السابع : المواعظ والإنذار والتحذير والتبشير ، وهذا يجمع جميع آيات الوعد والوعيد ، وكذلك المحاجة والمجادلة للمعاندين ، وهذا باب الترغيب والترهيب .
الثامن : الإعجاز بالقرآن ليكون آية دالة على صدق الرسول ؛ إذ التصديق يتوقف على دلالة المعجزة بعد التحدي ، والقرآن جمع كونه معجزة بلفظه ومتحدي لأجله بمعناه والتحدي وقع فيه. قل فأتوا بسورة مثله. ولمعرفة أسباب النزول مدخل في ظهور مقتضى الحال ووضوحه ...اهـ
والله أعلم.