الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن الله تعالى أجرى على أيدي الأنبياء السابقين خوارق العادات لتكون معجزة لهم، وبرهاناً على صدقهم، وسبيلاً لإقامة الحجة على أقوامهم، وكانت معجزة كل نبي من جنس ما برع فيه قومه الذين أرسله الله إليهم، فكانت معجزة موسى -عليه السلام- مناسبة لما غلب على قومه وبرعوا فيه، وهو السحر، فأبطل الله سحرهم، بما أجرى على يديه، كما قال تعالى: فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {الأعراف: 118}، وعجزوا عن معارضته مع خبرتهم وتفننهم في أنواع السحر.
وكان قوم سيدنا عيسى -عليه السلام- ممن برعوا في فنون الطب والتداوي، فشفى الله على يديه ما استعصى عليهم من الأمراض، حتى أحيى الله على يديه الموتى.
ويلاحظ أن معجزات الأنبياء السابقين كانت مقيدة بقيدين:
الأول: أنها معجزات حسية، كانقلاب العصا حية، وانفلاق البحر لسيدنا موسى -عليه السلام-، وكون النار برداً وسلاماً على سيدنا إبراهيم -عليه السلام-، وإحياء الموتى وإبراء السقمى لسيدنا عيسى.
الثاني: أنها محدودة الزمان والمكان، فليست لها صفة العالمية والخلود، إذ كان النبي سابقاً يُرسل إلى قومه خاصة. ولما كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، ورسالته خاتم الرسالات، أعطاه الله تعالى نوعين من المعجزات:
الأولى: معجزات حسية شهدها من عاصروه وصاحبوه، كانشقاق القمر، ونبع الماء من تحت أصابعه، وغير ذلك مما تواترت به الروايات. وهذا يشبه ما سبق من معجزات إخوانه من الأنبياء والمرسلين.
الثانية: معجزة معنوية عقلية، وهي القرآن الكريم، الذي خلده الله بخلود الزمان، وأقام الله به الحجة على الخلق بتعاقب الدهور والأعوام، إذ عجز عن الإتيان بمثله جميع الإنس والجان، كما قال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا {الإسراء: 88}، واستمر عجزهم وسيستمر إلى يوم القيامة، بدليل أنهم يريدون تكذيبه، وأبلغ وسيلة لتكذيبه أن تأتي بمثله أو بمثل سورة واحدة منه، خصوصاً أنه قد اشتمل على التحدي الصريح لمن أراد أن يأتي بذلك، وعدم الإتيان بالشيء مع الإصرار على التكذيب عجز فادح.
وبهذا يظهر لنا أن معجزة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- امتازت عن معجزات إخوانه من الأنبياء بعظمتها وعالميتها وخلودها، ويؤيد ذلك ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ما من الأنبياء نبي، إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة.
قال ابن حجر في الفتح في شرح هذا الحديث: (أي معجزتي التي تحديت بها [هي] الوحي الذي أنزل علي، وهو القرآن. اهـ. وراجع الفتوى: 3183.
والله أعلم.