الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالحديث المذكور وهو " قاتل عمار وسالبه في النار " حديث مختلف في تصحيحه. وعلى فرض صحته فللعلماء في دفع ما أشار إليه السائل طرقا.
فمنهم من يثبت الحديث، وأن أبا الغادية هو من قتل عمارا، ويقول إنه فعل ذلك متأولا ويعذره، كما فعل ابن حزم في (الفصل في الملل) فقال: المجتهد المخطئ إذا قاتل على ما يرى أنه الحق قاصدا إلى الله تعالى نيته، غير عالم بأنه مخطئ، فهو فئة باغية، وإن كان مأجور أو لا حد عليه إذا ترك القاتل ولا قود، وأما إذا قاتل وهو يدري أنه مخطئ فهذا محارب تلزمه حدود المحاربة والقود، وهذا يفسق ويخرج، لا المجتهد المخطئ، وبيان ذلك قول الله تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ـ إلى قوله ـ إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم) فهذا نص قولنا دون تكلف تأويل ولا زوال عن موجب ظاهر الآية، وقد سماهم الله عز و جل مؤمنين باغين بعضهم إخوة بعض في حين تقاتلهم، وأهل العدل المبغي عليهم والمأمورين بالإصلاح بينهم وبينهم ولم يصفهم عز وجل بفسق من أجل ذلك التقاتل ولا بنقص إيمان، وإنما هم مخطئون باغون، ولا يريد واحد منهم قتل الآخر، وعمار رضي الله عنه قتله أبو الغادية يسار بن سبع السلمي، شهد بيعة الرضوان، فهو من شهداء الله له بأنه علم ما في قلبه وأنزل السكينة عليه ورضي عنه، فأبو الغادية رضي الله عنه متأول مجتهد مخطئ فيه باغ عليه مأجور أجرا واحدا، وليس هذا كقتلة عثمان رضي الله عنه؛ لأنهم لا مجال للاجتهاد في قتله، لأنه لم يقتل أحدا ولا حارب ولا قاتل ولا دافع ولا زنا بعد إحصان ولا ارتد فيسوغ المحاربة تأويل، بل هم فساق محاربون سافكون دما حراما عمدا بلا تأويل على سبيل الظلم والعدوان فهم فساق ملعون اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في (منهاج السنة النبوية): قد دخل في الفتنة خلق من هؤلاء المشهود لهم بالجنة والذي قتل عمار بن ياسر هو أبو الغادية وقد قيل إنه من أهل بيعة الرضوان، ذكر ذلك ابن حزم. فنحن نشهد لعمار بالجنة ولقاتله إن كان من أهل بيعة الرضوان بالجنة هـ.
وقال في موضع آخر: ذكر ابن حزم أن عمار بن ياسر قتله أبو الغادية، وأن أبا الغادية هذا من السابقين ممن بايع تحت الشجرة، وأولئك جميعهم قد ثبت في الصحيحين أنه لا يدخل النار منهم أحد، ففي صحيح مسلم وغيره عن جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة. وفي الصحيح أن غلام حاطب بن أبي بلتعة قال: يا رسول الله ليدخلن حاطب النار. فقال: "كذبت؛ إنه شهد بدرا والحديبية". وحاطب هذا هو الذي كاتب المشركين بخبر النبي صلى الله عليه و سلم وبسبب ذلك نزل (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة..) وكان مسيئا إلى مماليكه ولهذا قال مملوكه هذا القول، وكذبه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "إنه شهد بدرا والحديبية" وفي الصحيح: "لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة". وهؤلاء فيهم ممن قاتل عليا كطلحة والزبير، وإن كان قاتل عمار فيهم فهو أبلغ من غيره. اهـ.
ومن هؤلاء أيضا الحافظ ابن حجر، فقد ترجم لأبي الغادية ونقل جزم ابن معين بأنه قاتل عمار، ثم قال في آخر الترجمة: والظن بالصحابة في تلك الحروب أنهم كانوا فيها متأولين وللمجتهد المخطئ أجر، وإذا ثبت هذا في حق آحاد الناس فثبوته للصحابة بالطريق الأولى. اهـ.
ومن أهل العلم من يطعن في صحة كون أبي الغادية هو قاتل عمار ومن هؤلاء: الشيخ عبد الرحمن دمشقية، ويقول هؤلاء العلماء إنهم لم يجدوا رواية ثابتة جاءت من طريق صحيح لإثبات قتل أبي الغادية لعمار.
ومن أهل العلم من يقدم حديث "قاتل عمار .." ويخصص به عموم أحاديث فضل من شهد بيعة الرضوان، قال الألباني خلال تخريج حديث: "قاتل عمار وسالبه في النار" بعد أن نقل كلام ابن حجر السابق: هذا حق، لكن تطبيقه على كل فرد من أفرادهم مشكل لأنه يلزم تناقض القاعدة المذكورة بمثل حديث الترجمة، إذ لا يمكن القول بأن أبا غادية القاتل لعمار مأجور لأنه قتله مجتهدا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " قاتل عمار في النار " ! فالصواب أن يقال: إن القاعدة صحيحة ما دل الدليل القاطع على خلافها، فيستثنى ذلك منها كما هو الشأن هنا، وهذا خير من ضرب الحديث الصحيح بها. اهـ.
ولمزيد الفائدة يمكن الاطلاع على الفتوى رقم: 30222.
والله أعلم.