الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فهذه قصة رمزية يهدف صاحبها إلى تعميق معنى التوكل على الله والثقة به، وأن الوصول للنجاح مفتقر لذلك، وأن الفرق بين المرء وبين تحقيق أهدافه وحصول فلاحه إن هو أحسن التوكل قصير بقدر المتر الواحد المذكور في هذه القصة.
ولكن في القصة إيماء لمعنى مجانب للصواب في فهم حقيقة التوكل، وهو معنى إلغاء الأسباب والتهوين من شأنها، كحال متأخري الصوفية، حيث طُلِب من هذا المتسلق أن يدع الحبل تدليلا على صدق إيمانه بالله وأنه سبحانه هو الذي بيده مقادير الخلائق. وهذا يتضح بتذييل القصة بهذا الخطاب المباشر المنبه لقارئ القصة: (وماذا عنك؟ هل قطعت الحبل؟ هل مازلت تظن أن حبالك سوف تنقذك؟ إن كنت وسط آلامك ومشاكلك، تتكل على حكمتك وذكاءك فاعلم أنه ينقصك الكثير كي تعلم معنى الإيمان) وبهذا يتضح مراد كاتب القصة.
والصواب أن سنة الله جارية في إعمال الأسباب مع التوكل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز. رواه مسلم. ومن أمثلة القرآن على ذلك قول يعقوب عليه السلام لبنيه: يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ {يوسف: 67} قال السعدي: ذلك أنه خاف عليهم العين، لكثرتهم وبهاء منظرهم، لكونهم أبناء رجل واحد، وهذا سبب. {وَ} إلا فـ {مَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} فالمقدر لا بد أن يكون، {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ} أي: القضاء قضاؤه، والأمر أمره، فما قضاه وحكم به لا بد أن يقع، {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} أي: اعتمدت على الله، لا على ما وصيتكم به من السبب، {وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} فإن بالتوكل يحصل كل مطلوب، ويندفع كل مرهوب. اهـ.
وهذا المذكور في القصة يقارب ما رواه ابن أبي الدنيا في كتاب (مكائد الشيطان): أن عيسى عليه الصلاة والسلام كان يصلي على رأس جبل فأتاه إبليس فقال: أنت الذي تزعم أن كل شيء بقضاء وقدر؟ قال: نعم. قال: ألق نفسك من الجبل وقل: قدر علي. قال: يالعين ! الله يختبر العباد، وليس للعباد أن يختبروا الله عز و جل. اهـ.
وقد نقل ذلك ابن الجوزي في (تلبيس إبليس) وقال: ينبغي أن تكون أعضاء المتوكل في الكسب وقلبه ساكن مفوض إلى الحق منع أو أعطى؛ لأن لا يرى إلا أن الحق سبحانه وتعالى لا يتصرف إلا بحكمة ومصلحة، فمنعه عطاء في المعنى، وكم زين للعجزة عجزهم وسولت لهم أنفسهم أن التفريط توكل، فصاروا في غرورهم بمثابة من اعتقد التهور شجاعة، ومتى وُضِعت أسباب فأهملت كان ذلك جهلا بحكمة الواضع، مثل وضع الطعام سببا للشبع والماء للري والدواء للمرض، فإذا ترك الإنسان ذلك إهوانا بالسبب، ثم دعا وسأل، فربما قيل له: قد جعلنا لعافيتك سببا فإذا لم تتناوله كان إهوانا لعطائنا، فربما لم نعافك بغير سبب لإهوانك للسبب. وما هذا إلا بمثابة من بين قراحه (أي مزرعته) وماء الساقية رفسه بمسحاة، فأخذ يصلي صلاة الاستسقاء طلبا للمطر، فإنه لا يستحسن منه ذلك شرعا ولا عقلا اهـ.
والمقصود أن تعلق القلب بالله تعالى لا يتعارض مع تعلق البدن بحبل النجاة كسبب لها. كما هو مذكور في القصة. فحقيقة التوكل هي عمل القلب وعلمه، فعمل القلب: الاعتماد على الله عز وجل والثقة به، وعلمه: معرفته بتوحيد الله سبحانه بالنفع والضر. وعمل القلب لا بد أن يؤثر في عمل الجوارح والذي هو الأخذ بالأسباب، فمن ترك العمل - أي الأخذ بالأسباب - فهو العاجز المتواكل الذي يستحق من العقلاء التوبيخ والتهجين، ولم يأمر الله بالتوكل إلا بعد التحرز والأخذ بالأسباب، كما سبق بيانه في الفتوى 53203، 44824.
والله أعلم.