السؤال
أريد أن أعرف معنى صريحا وافيا وشافيا لكلمة القدر، فهناك العديد والعديد من الأسئلة التي تدور في رأسيمثلا : إذا كان المرض قدرا فما هو الإيدز أو الأمراض الجنسية التي تأتي كنتيجة للمعصية والمعصية اختيار ، إذا كان الزواج قدرا فلماذا أمرنا الرسول الكريم عليه أفضل السلام وأزكى التسلبم باختيار نطفنا، وهل بالفعل كل انسان مكتوب له زوجته، هل قدر الله علي أنني أعمل بمهنة معينة أم أن هذا ناتج لجدي واجتهاديأسأل الله أن لا تكون أسئلتي هذه جدلية يحاسبني الله عليها ولكني أسألها كي يزيد إيماني ؟
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن الإيمان بالقدر من أصول الإيمان التي لا يتم إيمان العبد إلا بها، ففي صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب في سؤال جبريل عليه السلام الرسول صلى الله عليه وسلم قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وبالقدر خيره وشره قال - أي جبريل عليه السلام-: صدقت.
والنصوص المخبرة عن قدر الله الآمرة بالإيمان به كثيرة، فمن ذلك قوله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ {القمر:49}. وقوله: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا {الأحزاب:38}. وقوله أيضا: وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا {الأنفال:42}.إلى غير ذلك من الآيات.
وروى مسلم في صحيحه عن طاووس قال: أدركت ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: كل شيء بقدر، قال: وسمعت عبد الله بن عمر يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس. وانظر للفائدة الفتوى رقم : 7460 .
وما ذكرناه يدل على أنه لا يخرج شيء عن قدر الله تعالى، ومن جملة ذلك، السعي في تحصيل واختيار العمل النافع والزوجة الصالحة، وتوضيح ذلك: أن الله تعالى يقدر الأشياء على أسباب يقدرها أيضا، فكما قدر الله تعالى الشبع قدر سببه وهو الأكل، كذلك قدر الحصول على العمل و الزوجة وقدر سببه وهو السعي في طلبهما، فكل من الحصول على العمل والزوجة والسعي له من قدر الله تعالى، وقد حض النبي صلى الله عليه وسلم على اختيار أفضل الزوجات، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك . وأخرج ابن ماجه وحسنه الألباني عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تخيروا لنطفكم وأنكحوا الأكفاء وأنكحوا إليهم .
قال شارحه شمس الحق: تخيروا لنطفكم: أي من النساء ذوات الدين والصلاح وذوات النسب الشريف، لئلا تكون المرأة من أولاد الزنا فإن هذه تتعدى إلى أولادها. اهـ.
فعلى المسلم أن يوقن بأن ما يحصل له قد قدره الله عز وجل، وأنه لا يستطيع أحد من الخلق أن يحول بينه وبين خير قدره الله له، كما لا يستطيعون دفع مكروه قدره الله عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك. رفعت الأقلام وجفت الصحف. رواه الترمذي.
ولكن هذا لا يعني أن الإنسان مجبر على فعله، فإن الله عز وجل كتب مقادير كل شيء قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وإنما كتب ذلك لعلمه سبحانه بما كان وما سيكون وما هو كائن، فعلم أن فلانا سيفعل كذا، وفلانا سيترك كذا، فكتب ذلك كله، وأعطى الإنسان إرادة بها يختار، وقدرة بها ينفذ، فكل إنسان له إرادة وقدرة، يفعل ما يشاء مختارا لا مكرها، وهذا يجده كل إنسان من نفسه، ولا يجادل فيه إلا مكابر، وعلى هذا دلت نصوص الكتاب والسنة. والله سبحانه قدر الأشياء وجعل لها أسبابا، وطالب العبد بالقيام بها، فليسع العبد بقدر استطاعته لتحصيل أسباب الوظيفة والزواج، وإن من أهم الأسباب الاستقامة على دين الله وترك معصيته، قال الله تعالى: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا {نوح: 10-11-12}، وقال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ{النحل:97}، وقال الله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ {الطلاق:2-3}, وقال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا{الطلاق:4}. ومما لا شك فيه أن للذنوب أثرا وشؤما على العبد حتى في أمور دنياه وفي تعسير أموره وإصابته بالأمراض والبلايا، قال جل وعلا: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ {الشورى:30}، بل إن العبد يحرم الرزق بسبب معاصيه، ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه. رواه أحمد .
ومن هذا إصابة العصاة بالايدز وغيره من الأمراض الفتاكة، وذلك أن هذا المرض الفتاك وغيره من الأمراض الكثيرة يخشى أن يكون سببها ظهور الفواحش في المجتمعات، مصداقا لما في الحديث: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا. رواه ابن ماجه والحاكم، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي والألباني.
ثم انه لا يلزم ان يكون كل رجل كتب له الزواج فقد يموت بعضهم ولم يتزوج كما هو مشاهد، وقد ألف بعض العلماء كتابا في العلماء العزاب الذين ماتوا قبل الزواج ومن المشهور من هؤلاء النووي وابن تيمية رحمهما الله .
والله أعلم .