السؤال
ما الحكم فيمن قال بأن الله في كل مكان؟ وهل هذه العبارة صحيحة؟أفتوني، جزاكم الله خيرًا.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالواجب على المسلم أن يعتقد أن الله -تعالى- مستوٍ على عرشه، وعرشه فوق سماواته، وأنه بائن من خلقه -جلَّ وعلا- ليس حاّلاً فيهم، فهو العلي الأعلى، فوق جميع مخلوقاته -سبحانه وتعالى وتقدس-.
وهذا ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وإجماع الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم من أهل القرون المفضلة.
قال الله تعالى: (سبح اسم ربك الأعلى)، وقال الله تعالى: (يخافون ربهم من فوقهم)، وقال الله تعالى: (ثم استوى على العرش) في سبعة مواضع من القرآن. وقال الله تعالى: (إليه يصعد الكلم الطيب)، وقال الله تعالى: (بل رفعه الله إليه)، وقال الله تعالى: (أأمنتم من في السماء)، والسماء بمعنى العلو، أو هي السماوات المعروفة، و (في) بمعنى: (على) أي: على السماء، إذ ليس الله تعالى محصوراً، ولا داخلًا في شيء من خلقه، وهذا نحو قوله تعالى: (قل سيروا في الأرض)، أي: على الأرض، وكقوله تعالى: (ولأصلبنكم في جذوع النخل)، أي: على جذوع النحل. إلى غير ذلك من الآيات الدالة على علوّه تعالى على خلقه.
كما دلت عليه نصوص السنة ومنها:
1- ما رواه مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمي في قصة ضربه لجاريته وفيه.. فقلت: يا رسول الله! أفلا أعتقها؟ قال: ادعها، فدعوتها، فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: أعتقها، فإنها مؤمنة.
2- ما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول -صلى الله عليه وسلم- قال في خطبته يوم عرفة: ألا هل بلغت؟ فقالوا: نعم، يرفع أصبعه إلى السماء، وينكتها إليهم، ويقول: اللهم اشهد.
3- ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: الملائكة يتعاقبون فيكم، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج إليه الذين باتوا فيكم، فيسألهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون.
4- ما رواه أبو داود، والترمذي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض، يرحمكم من في السماء.
5- ما رواه البخاري عن أنس أن زينب بنت جحش كانت تفخر على أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- تقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سموات.
6- ما في الصحيحين من حديث أبي سعيد قال: قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحاً ومساء.
7- ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول -صلى الله عليه وسلم- قال: والذي نفسي بيده، ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه فتأبى عليه، إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها، حتى يرضى عنها زوجها.
8- ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: كان ملك الموت يأتي الناس عياناً، فأتى موسى -عليه السلام- فلطمه، فذهب بعينه، فعرج إلى ربه -عزَّ وجلَّ- فقال: يا رب! بعثتني إلى موسى فلطمني. الحديث.
9- ما رواه النسائي من حديث سعد بن أبي وقاص أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لسعد بن معاذ: لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبع سموات.
10- ما جاء في قصة معراجه صلى الله عليه وسلم، وارتفاعه إلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام، وكلامه مع ربه -جلَّ وعلا-، ثم مروره على موسى، ثم رجوعه إلى ربه -جلَّ وعلا- سائلاً التخفيف في أمر الصلاة.
إلى غير ذلك من الأحاديث الصحيحة الثابتة الدالة على إثبات هذا الأمر العظيم.
وهذا الأمر مستفيض عن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن بعدهم من التابعين، وحسبنا من ذلك ما قال عبد الله بن رواحة -رضي الله عنه-:
شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا
وأن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمينا
وتحمله ملائكة كرام ملائكة الإله مقربينا
وأما الإجماع، فقد حكاه غير واحد من أئمة المسلمين.
قال الإمام الأوزاعي (المتوفى سنة 157هـ): كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله تعالى فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته. اهـ.
وقال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي (المتوفى سنة 280 هـ) في رده على بشر المريسي: اتفقت الكلمة من المسلمين أن الله تعالى فوق عرشه، فوق سماواته. اهـ.
وقال الإمام قتيبة بن سعيد (المتوفى سنه 240هـ): هذا قول الأئمة في الإسلام، وأهل السنة والجماعة: نعرف ربنا -عزَّ وجلَّ- في السماء السابعة على عرشه، كما قال: الرحمن على العرش استوى. اهـ.
وقال الإمام أبو زرعة الرازي (المتوفى سنة 264هـ)، والإمام أبو حاتم: أدركنا العلماء في جميع الأمصار، فكان مذهبهم أن الله على عرشه، بائن من خلقه، كما وصف نفسه، بلا كيف، أحاط بكل شيء علمًا. اهـ.
وقال الإمام بن عبد البر حافظ المغرب (المتوفى سنة 463هـ) في كتابه التمهيد (6/ 124) في شرح حديث النزول ( … وهو حديث منقول من طرق متواترة، ووجوه كثيرة من أخبار العدول عن النبي -صلى الله عليه وسلم- … وفيه دليل على أن الله -عزَّ وجلَّ- في السماء على العرش من فوق سبع سموات، كما قالت الجماعة، وهو من حجتهم على المعتزلة والجهمية في قولهم: إن الله -عزَّ وجلَّ- في كل مكان، وليس على العرش، والدليل على صحه ما قاله أهل الحق في ذلك: قول الله -عزَّ وجلَّ-: الرحمن على العرش استوى.. اهـ.
وقال الإمام الحافظ أبو نعيم صاحب الحلية في كتابه محجة الواثقين: وأجمعوا أن الله فوق سمواته، عال على عرشه، مستو عليه، لا مستولٍ عليه كما تقول الجهمية إنه بكل مكان... اهـ.
وبهذا يعلم أن القول بأن الله في كل مكان، ليس من أقوال أهل السنة، بل هو قول الجهمية والمعتزلة، ولهذا قال ابن المبارك -رحمه الله- (المتوفى سنه 181هـ) وقد سئل: كيف ينبغي أن نعرف ربنا؟ قال: على السماء السابعة على عرشه، ولا نقول: كما تقول الجهمية: إنه هاهنا في الأرض.
قال الإمام الذهبي في نهاية كتابه العلو: والله فوق عرشه، كما أجمع عليه الصدر الأول، ونقله عنهم الأئمة. وقالوا ذلك رادين على الجهمية القائلين بأنه في كل مكان، محتجين بقوله (وهو معكم)، فهذان القولان هما اللذان كانا في زمن التابعين وتابعيهم، وهما قولان معقولان في الجملة.
فأما القول الثالث المتولد أخيراً من أنه تعالى ليس في الأمكنة، ولا خارجًا عنها، ولا فوق العرش، ولا هو متصل بالخلق، ولا بمنفصل عنهم، ولا ذاته المقدسة متحيزة، ولا بائنة عن مخلوقاته، ولا في الجهات، ولا خارجًا عن الجهات، ولا، ولا، فهذا شيء لا يعقل ولا يفهم، مع ما فيه من مخالفة الآيات والأخبار، ففر بدينك، وإياك وآراء المتكلمين. انتهى.
فمن قال: إن الله في كل مكان، يريد نفي علوه على عرشه، وأنه بذاته في الأمكنة، فقوله باطل، بل هو كفر بالله -تعالى-، لما فيه من إثبات الحلول، والامتزاج بالمخلوقات.
ونقل الإمام الذهبي في كتابه "العلو للعلي الغفار" عن إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة أنه قال: من لم يقرّ بِأَن الله على عَرْشه اسْتَوَى، فَوق سبع سمواته، بَائِن من خلقه، فَهُوَ كَافِر، يُسْتَتَاب، فَإِن تَابَ، وَإِلَّا ضربت عُنُقه، وَأُلْقِي على مزبلة، لِئَلَّا يتَأَذَّى بريحته أهل الْقبْلَة، وَأهل الذِّمَّة. اهـ.
ومن قال إن الله في كل مكان، يريد بذلك علمه -تعالى-، وأنه لا يعزب مكان عن علمه، فهذا حق، وينبغي له أن يصرح مع ذلك بأن الله بائن عن خلقه، مستو على عرشه، لئلا يوهم كلامه حلول الله في خلقه، تعالى الله عن ذلك.
وهذا هو معنى قوله تعالى: وهو معهم أينما كانوا. وقوله: ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم … الآية.
وقد صح عن الإمام مالك بن أنس -رحمه الله- أنه قال: الله في السماء، وعلمه في كل مكان، لا يخلو منه شيء.
وقد نقل الإمام أبو عمرو الطلمنكي الإجماع على أن المراد بهذه الآية: العلم.
وقال القاضي أبو بكر الباقلاني في كتابه الإبانة: فإن قال: فهل تقولون إنه في كل مكان؟ قيل له: معاذ الله، بل هو مستو على عرشه، كما أخبر في كتابه، فقال: (الرحمن على العرش استوى)، وقال الله تعالى: (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه)، وقال: (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور).
ولو كان في كل مكان، لكان في بطن الإنسان وفمه، والحشوش، والمواضع التي يرغب عن ذكرها، ولوجب أن يزيد بزيادة الأمكنة إذا خلق منها ما لم يكن، وينقص بنقصانها، إذا بطل منها ما كان، ولصح أن يُرْغب إليه إلى نحو الأرض، وإلى خلفنا، وإلى يميننا، وإلى شمالنا، وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه، وتخطئة قائله. انتهى.
وهذه المسألة قد اهتم أهل السنة ببيانها والتصنيف فيها، فمن أراد الاطلاع على كلام السلف واستدلالاتهم، فليرجع إلى هذه المصادر، ومنها:
1- كتاب الإيمان والتوحيد لابن منده.
2- الإبانة لابن بطة العكبري.
3- التوحيد لابن خزيمة.
4- كتاب أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للطبري اللالكائي.
5- كتاب الإبانة للإمام أبي الحسن الأشعري.
6- كتاب العلو للحافظ الذهبي.
7- كتاب الفتوى الحموية لابن تيمية.
8- كتاب اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم.
والله أعلم.
يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني