السؤال
كان لي صديق درس معي في الثانوية، وكان طيب الأخلاق، مرحا مهذبا، وشاء الله أن مررنا بفترة ابتلينا فيها بالمخدرات -نسأل الله أن يغفر لنا ما مضى-، ثم بعد ذلك أقلعنا، وأصبحنا نجلس في مجالس الصالحين، لنذكر الله، ونتواصى بالحق، ونتعلم من أمور ديننا.
وكنا نعرف شبابا آخرين نلتقي بهم في مقهى الحي، فنضحك، ويمازح بعضنا بعضا كلما التقينا، وفي أحد الأيام تسللت وسطنا بِنتان، بدأتا بالجلوس على مرأى منا، ثم الحديث معنا، ثم الجلوس بيننا، وقد أحسست حينها بأن عاقبة هذا لن تكون محمودة، لأنهن كن يدخِّن -نسأل الله أن يتجاوز عنا أجمعين-.
المهم أن إحداهن ظلت تتقرب من صديقي حتى أصبحت معه في علاقة -لا أعلم هل تطور الأمر للجنس أم لا؟ لكنها أصبحت تجره إلى الخمور، والمسكرات وغيره. بل إنه أصبح يفكر بالزواج منها، وهو الذي كان يحدثنا فيما مضى عن أهم معايير الزواج عنده -وهو صلاح الزوجة-. وفي أحد الأيام دخلت المقهى فوجدت الجو مشحونا، لأعلم بعدها بدقائق أن صديقي دخل في صراع مع أحد أصدقاء تلك الفتاة، الذي حاول السلام عليها بالوجه، فلم يعجبه الأمر، وكاد الأمر أن يصل إلى ما لا تحمد عقباه، ووسط كل هذا تدخلت متحدثا مع الطرف الآخر الذي كان ينتظره بالخارج ليكمل القتال، وهدأت الموقف، ولكنني عندما عدت، ورأيت كمية تبعات تسلل هاتين الفتاتين وسطنا، أخبرت صديقي كذبا أن تلك الفتاة كانت في علاقة سابقة مع ذلك الشاب الذي تصارع معه، حتى أنفره منها، فيتفرقا، وتبتعد لعنتها عنه، رغم أنني في الحقيقة لم أرها، أو أعلم عنها زنى مع ذلك الشخص، رغم ما علمت عنها من أعمال، وأفعال لا ترضي الله، وكان هذا سببا في تفرق الجميع، وتسبب هذا في خصام بيني وبينه، رغم أنني حاولت مصالحته دون أن يقبل.
وشاء الله أن عاد لصحبة أشخاص طيبين، وعاد لذكر الله، ومجالس الخير، ليتوفاه الله بعد ذلك إثر مرض ألمّ به.
أود أن أعرف إن سامحته في عدم قبوله لمصالحتي، ودعوت له بالخير، فهل يجمعني الله به متصالحين في الآخرة، لأنني لا أريد أن أكون خصمه يوم القيامة؟ ثم هل لأن كذبتي كانت بنية صالحة وهي إبعاد تلك الفتاة عن صديقي، والتي كانت آخذة بناصيته إلى المعاصي، والمنكرات، بل إنها كانت تدخل الشك في الدين، بل في الخالق، يغفر الله لي أن وصفتها بالزنا دون استبيان، لأبعد شرها؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن ما ذكرت يدل على خطر رفقاء السوء، ومجالسهم، فلا بد لمريد طريق التوبة، والاستقامة أن يبتعد عن أجواء المعاصي، ويحرص على بيئات الخير، والصلاح، ومجالس العلم، لما في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على راهب، فأتاه، فقال إنه قتل تسعة، وتسعين نفسا، فهل له من توبة؟ فقال لا، فقتله، فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل عالم، فقال إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة؟ فقال نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة، انطلق إلى أرض كذا، وكذا، فإن بها أناسا يعبدون الله، فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرا قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي، فجعلوه بينهم، فقال قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى، فهو له، فقاسوه، فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة.
قال النووي في شرحه: قال العلماء: في هذا استحباب مفارقة التائب المواضع التي أصاب بها الذنوب، والأخدان المساعدين له على ذلك، ومقاطعتهم، ما داموا على حالهم، وأن يستبدل بهم صحبة أهل الخير، والصلاح، والعلماء، والمتعبدين الورعين، ومن يقتدي بهم، وينتفع بصحبتهم، وتتأكد بذلك توبته... اهـ.
وأما عن صديقك: فنرجو أن تنفعه دعواتك له بالخير، وما كان يعمله في آخر حياته من أعمال الطاعات، وحضور مجالس الخير.
وأما عن اجتماعكما متصالحين في الآخرة: فأمره إلى الله، ولكن النصوص ثبت فيها سلامة قلوب أهل الجنة من التباغض، والغل، والضغائن، كما قال الله تعالى في صفة أهل الجنة: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ {الحجر:47}.
وقال ابن كثير -رحمه الله: يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنَّهُ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ، أَيْ: عَنْ أَحْوَالِهِمْ، وَكَيْفَ كَانُوا فِي الدُّنْيَا، وَمَاذَا كَانُوا يُعَانُونَ فِيهَا؟ وَذَلِكَ مِنْ حَدِيثِهِمْ عَلَى شَرَابِهِمْ، وَاجْتِمَاعِهِمْ فِي تُنَادِمِهِمْ، وَعِشْرَتِهِمْ فِي مَجَالِسِهِمْ، وَهُمْ جُلُوسٌ عَلَى السُّرُرِ، وَالْخَدَمِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، يَسْعَوْنَ، وَيَجِيئُونَ بِكُلِّ خَيْرٍ عَظِيمٍ، مِنْ مَآكِلَ، وَمُشَارِبَ، وَمَلَابِسَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. اهـ.
وأما كذبك على البنت، وما ذكرت عن علاقتها بالشاب: فهو محرم، لما فيه من اتهامهما بما لم يثبت عندك، ولأن ما ترجوه من مصلحة إبعاد صديقك عنها يمكن تحقيقه بوسائل أخرى.
فعليك أن تتوب إلى الله، وتكثر الدعاء، والاستغفار للشابين، فقد قال ابن القيم -رحمه الله- في الكلام على التحلل ممن ظلم في عرضه: والقول الآخر: أنه لا يشترط الإعلام بما نال من عرضه، وقذفه، واغتيابه، بل يكفي توبته بينه وبين الله، وأن يذكر المغتاب، والمقذوف في مواضع غيبته، وقذفه، بضد ما ذكره به من الغيبة، فيبدل غيبته بمدحه، والثناء عليه، وذكر محاسنه، وقذفه بذكر عفّته، وإحصانه، ويستغفر له بقدر ما اغتابه، وهذا اختيار شيخنا أبي العباس ابن تيمية -قدّس الله روحه. انتهى من المدارج باختصار.
والله أعلم.