الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الأحاديث تدل على أن منع الدجال من دخول مكة والمدينة خاص بحدود حرمي المدينتين، فقد جاء في حديث قصة الجساسة الطويل: أن الدجال قال: لو خرجت من مكاني هذا ما تركت أرضا من أرض الله إلا وطئتها غير طيبة، ليس لي عليها سلطان، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلى هذا انتهى فرحي ـ ثلاث مرار ـ إن طيبة المدينة، إن الله حرم حرمي على الدجال أن يدخلها، ثم حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي لا إله إلا هو، ما لها طريق ضيق ولا واسع في سهل ولا في جبل إلا عليه ملك شاهر بالسيف إلى يوم القيامة، ما يستطيع الدجال أن يدخلها على أهلها ـ قال عامر: فلقيت المحرر بن أبي هريرة فحدثته حديث فاطمة بنت قيس، فقال: أشهد على أبي أنه حدثني كما حدثتك فاطمة، غير أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه نحو المشرق ـ قال: ثم لقيت القاسم بن محمد فذكرت له حديث فاطمة، فقال: أشهد على عائشة أنها حدثتني كما حدثتك فاطمة غير أنها قالت: الحرمان عليه حرام: مكة والمدينة. أخرجه الإمام أحمد في مسنده، وأصله في صحيح مسلم.
والشاهد فيه قوله صلى الله عليه وسلم: حرم حرمي -الحرمان عليه حرم.
وفي مسند الإمام أحمد عن سمرة بن جندب في حديث طويل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: والله لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذابا آخرهم الأعور الدجال: ممسوح العين اليسرى كأنها عين أبي يحيى -لشيخ من الأنصار- وإنه متى خرج، فإنه يزعم أنه الله، فمن آمن به، وصدقه، واتبعه، فليس ينفعه صالح من عمل سلف، ومن كفر به، وكذبه، فليس يعاقب بشيء من عمله سلف، وإنه سيظهر على الأرض كلها إلا الحرم، وبيت المقدس. وأخرجه ابن خزيمة، وابن حبان في صحيحيهما، وقال الحاكم في المستدرك: صحيح على شرط الشيخين.
والشاهد قوله: إلا الحرم.
ويعضد هذا ما جاء أن الدجال سينزل سبخة الجرف -وهي الآن حي مسكون من أحياء المدينة خارج حدود الحرم- ففي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال، إلا مكة والمدينة، وليس نقب من أنقابها إلا عليه الملائكة صافين تحرسها، فينزل بالسبخة، فترجف المدينة ثلاث رجفات، يخرج إليه منها كل كافر ومنافق.
وفي رواية له: فيأتي سبخة الجرف، فيضرب رواقه، وقال: فيخرج إليه كل منافق ومنافقة.
والنقاب هي الطرق، جاء في شرح البخاري لابن بطال: قال الأخفش: أنقاب المدينة: طرقها، الواحد: نقب، وهو من قول الله تعالى: فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ {ق: 36} أي: جعلوا فيها طرقًا ومسالك. اهـ.
وقد بوب ابن حبان في صحيحه: ذكر الإخبار عن نفي دخول الدجال حرم الله جل وعلا. اهـ.
وبوب أيضا: ذكر الإخبار عن وصف عدد الملائكة التي تحرس حرم المصطفى صلى الله عليه وسلم عن دخول الدجال إليها. اهـ.
وفي فتح العلام، بشرح الإعلام، بأحاديث الأحكام، لزكريا الأنصاري: وسمي مسيحًا... قيل لمسحه: أي وطئه الأرض غير حرم مكة والمدينة وبيت المقدس عند خروجه. اهـ.
وفي حاشية البجيرمي على الخطيب: الدجال -لعنه الله- يخترق الأرض كلها سهلها، ووعرها، وقفرها، وعمرانها في ثلاثة أيام، إلا حرم مكة، وحرم المدينة، فإنه لا يدخلهما. اهـ.
وفي منحة العلام في شرح بلوغ المرام، لعبد الله الفوزان: وفائدة معرفة حدود حرم المدينة هي ما يترتب على ذلك من حصول البركة بدعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم، وتحريم الصيد، ومنع الدجال منها، وكونها لا يدخلها الطاعون، إلى غير ذلك مما ثبت في الأحاديث الصحيحة. اهـ.
فقولك: هل الملائكة ستحرس كل بيت في مكة والمدينة؟ أم فقط ستحرس المساحة التي كان يعيش بها الناس في زمن الرسول -صلى الله عليه وسلم؟ أم فقط ستحرس الحرمين الشريفين؟ فكل ما كان داخل حدود حرمي مكة والمدينة، فإن الدجال يمنع من دخوله، لأن الملائكة تقف على طرقهما وتحرسهما.
وليس منع الدجال مقصورا على المسجد الحرام والمسجد النبوي، بل هو شامل لكل ما كان داخل حدود حرمي مكة والمدينة، وليس المنع متعلقا بالمكان الذي كان يعيش فيه الناس في زمن النبوة بمكة والمدينة، بل المنع متعلق بحدود حرمي مكة والمدينة، فما كان خارجا عن حدود حرمي مكة والمدينة لا تحرسه الملائكة، ولا يمنع الدجال من دخوله -كما تقدم- وانظر في حدود حرمي مكة والمدينة الفتويين: 71668، 4087.
والله أعلم.