السؤال
توجد أحاديث كثيرة عن فضل العلم وطلبه، وحث النبي -صلى الله عليه وسلم- على ذلك، والظاهر أنه العلم الشرعي. فهل كان يوجد أساسًا طالب علم أثناء فترة النبوة، وعلماء وخطباء، وما إلى ذلك؟ وإن كان؛ فهل العلم المقصود هو القرآن؟ أم الفقه؟ أم السيرة؟ أم ماذا؟
أرجو التوضيح.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فقد أخرج الطبراني في المعجم الكبير: عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال حدث صفوان بن عسال المرادي قال: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو متكئ في المسجد على برد له، فقلت له: يا رسول الله، إني جئت أطلب العلم، فقال: مرحبا بطالب العلم، طالب العلم لتحفه الملائكة، وتظله بأجنحتها، ثم يركب بعضها بعضا حتى يبلغوا السماء الدنيا من حبهم لما يطلب، فما جئت تطلب؟ قال: قال صفوان: يا رسول الله، لا نزال نسافر بين مكة والمدينة، فأفتنا عن المسح على الخفين، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ثلاثة أيام للمسافر، ويوم وليلة للمقيم.
ورواه الضياء المقدسي في كتابه: الأحاديث المختارة، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجاله رجال الصحيح. اهـ.
وقال البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة: إسناده جيد. اهـ.
فهذا الاستفتاء عدّه النبي -صلى الله عليه وسلم- طلبًا للعلم، وعُدَّ صاحبه طالبًا للعلم، فعامة الصحابة بهذا الاعتبار قد طلبوا العلم.
وإن كنت تقصد تصنيفًا للصحابة بأن فلانًا وفلانًا من طبقة طلبة العلم -وهم المشتغلون بدراسة العلم، ولم يصلوا مرتبة العلماء- كما اصطلح عليه العلماء لاحقًا: فلا نعلم مثل هذا التنصيف للصحابة.
وأما العلماء من الصحابة: فكُثُر، على رأسهم الخلفاء الراشدون -رضي الله عنهم- ومن بعدهم جمّ غفير، وقد رويت الفتوى عما يربو عن مائة من الصحابة.
قال ابن حزم في الإحكام في أصول الأحكام: ثم لم ترو الفتيا في العبادات والأحكام إلا عن مائة ونيف وثلاثين منهم فقط، من رجل وامرأة بعد التقصي الشديد... والمكثرون من الصحابة -رضي الله عنهم- فيما روي عنهم من الفتيا، عائشة أم المؤمنين، عمر بن الخطاب، ابنه عبد الله، علي بن أبي طالب، عبد الله بن العباس، عبد الله بن مسعود، زيد بن ثابت، فهم سبعة يمكن أن يجمع من فتيا كل واحد منهم سفر ضخم... والمتوسطون منهم فيما روي عنهم من الفتيا -رضي الله عنهم: أم سلمة أم المؤمنين، أنس بن مالك، أبو سعيد الخدري، أبو هريرة، عثمان بن عفان، عبد الله بن عمرو بن العاص، عبد الله بن الزبير، أبو موسى الأشعري، سعد بن أبي وقاص، سلمان الفارسي، جابر بن عبد الله، معاذ بن جبل، وأبو بكر الصديق، فهم ثلاثة عشر فقط، يمكن أن يجمع من فتيا كل امرئ منهم جزء صغير جدا، ويضاف أيضا إليهم طلحة، الزبير، عبد الرحمن بن عوف، عمران بن الحصين، أبو بكرة، عبادة بن الصامت، معاوية بن أبي سفيان، والباقون منهم -رضي الله عنهم- مُقِلُّون في الفتيا لا يروي الواحد منهم إلا المسألة والمسألتان، والزيادة اليسيرة على ذلك فقط يمكن أن يجمع من فتيا جميعهم جزء صغير فقط بعد التقصي والبحث .اهـ.
وأما العلم الذي كان يشتغل به الصحابة فهو في الجملة: ضبط ألفاظ ومعاني الكتاب والسنة.
وقد تميز بعض الصحابة في أبواب معينة من العلم، فمنهم من اختص بضبط القرآن الكريم قراءة كأبي بن كعب، ومنهم في التفسير ومعاني كتاب الله كابن عباس، وابن مسعود، ومنهم من عني بحفظ أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- كأبي هريرة، ومنهم من برع في الفرائض كزيد بن ثابت، ومنهم من تميز في علم الحلال والحرام كمعاذ بن جبل، رضي الله عنهم أجمعين.
وقد أخرج الترمذي في سننه عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان بن عفان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبي بن كعب، ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح. قال الترمذي: هذا حديث غريب. وأخرجه ابن حبان في صحيحه، وقال الحاكم في المستدرك: إسناد صحيح على شرط الشيخين.
والله أعلم.