الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن أنواع الخل المصنوعة من مواد طاهرة -كخل التفاح، أو القصب، أو غيرهما- لا إشكال في حلها.
وإنما الإشكال هو في خل الخمر، أو النبيذ (Wine Vinegar) إذا لم تتخلل بنفسها.
والحديث المذكور من أدلة من يرى حرمة تخليل الخمر، وعدم طهارتها بذلك، وحرمة تناولها.
بينما يرى طائفة من العلماء جواز تخليل الخمر وطهارتها إذا خُللت، ويرى بعض العلماء -كابن حزم في المحلى- حرمة التخليل، مع طهارة الخل.
جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: - اتفق الفقهاء على أن الخمر إذا تخللت بغير علاج، بأن تغيرت من المرارة إلى الحموضة وزالت أوصافها، فإن ذلك الخل حلال طاهر؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: نعم الأدم أو الإدام الخل. ولأن علة النجاسة والتحريم الإسكار، وقد زالت، والحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا.
وكذلك إذا تخللت بنقلها من شمس إلى ظل، وعكسه، عند جمهور الفقهاء: (الحنفية والمالكية، وهو الأصح عند الشافعية) وبه قال الحنابلة إذا كان النقل لغير قصد التخليل.
- واختلفوا في جواز تخليل الخمر بإلقاء شيء فيها، كالخل والبصل والملح ونحوه.
فقال الشافعية والحنابلة، وهو رواية ابن القاسم عن مالك: إنه لا يحل تخليل الخمر بالعلاج، ولا تطهر بذلك؛ لحديث مسلم عن أنس قال: سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الخمر تتخذ خَلًّا، قال: لا. ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بإهراقها؛ ولأن الخمر نجسة أمر الله تعالى باجتنابها، وما يلقى في الخمر يتنجس بأول الملاقاة، وما يكون نجسا لا يفيد الطهارة.
وصرح الحنفية، وهو الراجح عند المالكية بجواز تخليل الخمر، فتصير بعد التخليل طاهرة حلالا عندهم، لقوله -صلى الله عيله وسلم-: نعم الإدام الخل. فيتناول جميع أنواعها.
ولأن بالتخليل إزالة الوصف المفسد، وإثبات الصلاح، والإصلاح مباح كما في دبغ الجلد، فإن الدباغ يطهره، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: أيما إهاب دبغ فقد طهر. اهـ.
وفي بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد: وأجمعوا على أن الخمر إذا تخللت من ذاتها جاز أكلها، واختلفوا إذا قصد تخليلها على ثلاثة أقوال: التحريم، والكراهية، والإباحة. وسبب اختلافهم معارضة القياس للأثر، واختلافهم في مفهوم الأثر.
وذلك أن أبا داود خرج من حديث أنس بن مالك «أن أبا طلحة سأل النبي -عليه الصلاة والسلام- عن أيتام ورثوا خمرا، فقال: "أهرقها! قال: أفلا أجعلها خلا؟ قال: لا».
فمن فهم من المنع سد ذريعة، حمل ذلك على الكراهية، ومن فهم النهي لغير علة، قال بالتحريم.
ويخرج على هذا أن لا تحريم أيضًا على مذهب من يرى أن النهي لا يعود بفساد المنهي.
والقياس المعارض لحمل الخل على التحريم: أنه قد علم من ضرورة الشرع أن الأحكام المختلفة إنما هي للذوات المختلفة، وأن الخمر غير ذات الخل، والخل بإجماع حلال، فإذا انتقلت ذات الخمر إلى ذات الخل وجب أن يكون حلالا كيفما انتقل. اهـ.
والذي نرجحه هو حرمة التخليل، وعدم طهارة الخل، كما سبق في الفتوى:141371.
وأما كيفية التمييز بين منتجات خل الخمر الموجود في الأسواق؛ ما كان منها متخللا بنفسه، وما قصد تخليله، فهو بحث في الواقع يرجع فيه إلى أهل الخبرة، وليس من مجال اختصاصنا.
لكن قد قرر بعض العلماء جواز شراء خل الخمر، ما دام المشتري لا يعلم أن البائع قصد تخليلها.
قال ابن تيمية -وهو ممن يرى حرمة تخليل الخمر-: وما ذكرناه عن عمر بن الخطاب هو الذي يعتمد عليه في هذه المسألة، أنه متى علم أن صاحبها قد قصد تخليلها لم تشتر منه. وإذا لم يعلم ذلك جاز اشتراؤها منه؛ لأن العادة أن صاحب الخمر لا يرضى أن يخللها. اهـ. من مجموع الفتاوى.
فالظاهر بناءً على هذا: جواز شراء خل الخمر، والمواد المشتملة عليه في الأسواق؛ لأن المشتري لا يعلم أن الجهة المنتجة قد قصدت تخليلها.
وأما مجرد وجود نسبة يسيرة من الكحول لا توجب الإسكار -في خل الخمر أو غيره-؛ فلا يقتضي التحريم، فالكحول موجودة في كثير من النباتات، والمواد المباحة بالإجماع -كخميرة العجين-، فاعتقاد حرمة كل ما يتضمن نسبة من الكحول اعتقاد خاطئ غير صحيح.
قال الشيخ محمد رشيد رضا في مجلة المنار: قال بعض متفقهة هذا العصر بنجاسة كل ما دخلت فيه مادة الغول (الكحول أو السبرتو) من أعطار، وطيوب، وأدهان، وأدوية، وهي كثيرة جدًّا عمت بها البلوى في الصيدليات، والطب، والصناعات.
وشبهتهم أن هذه المادة هي المؤثرة في الخمور المحرمة، وفاتهم أنها هي المؤثرة في كل المختمرات المحللة بالإجماع كخميرة العجين أيضًا، على أن هذه المادة أقوى من الماء في التطهير. اهـ.
وانظري المزيد في الفتوى: 420430.
والله أعلم.