السؤال
أنا وكيل أموال أيتام، وضعت مالا عند شخص من أقربائي للتجارة، ليعود الوارد للأيتام، وبعد ثلاث سنوات علمت أن الشخص يعمل في الربا، وأنا لا أعلم عنها شيئا، وأريد أن أتخلص من الأمول الحرام التي كسبتها، علما بأنه خسر تجارته كلها، وأعلن إفلاسه، والأرباح التي أخذتها منه تعادل رأس المال المودع لديه، فماذا أفعل؟ وهل أعتبر الأرباح هي رأس مالي؟ وهل علي إثم؟.
أفيدوني جزاكم لله خيرا.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فاستحقاق رأس المال لا إشكال فيه، حتى ولو كان هذا الشخص متعاملا بالربا، فقد قال تعالى: وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ {البقرة: 279}.
قال الواحدي في الوجيز: لا تظلمون ـ بطلب الزِّيادة: ولا تُظلمون ـ بالنُّقصان عن رأس المال. اهـ.
وقال ابن كثير في تفسيره: لا تظلمون ـ أي: بأخذ الزيادة: ولا تظلمون ـ أي: بوضع رؤوس الأموال أيضا، بل لكم ما بذلتم من غير زيادة عليه، ولا نقص منه. اهـ.
ولذلك، فليعتبر السائل ما قبضه من هذا الشخص هو رأس مال الأيتام، وبذلك يكون قد سلم لهم أصل مالهم.
وأما الحكم بالإثم من عدمه، فيختلف بحسب حال السائل، ونظره، واجتهاده في تقدير مصلحة الأيتام، والله يعلم المفسد من المصلح! كما قال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ {البقرة: 220}.
قال الواحدي في الوجيز: والله يعلم المفسد ـ لأموالهم: من المصلح ـ لها، فاتقَّوا الله في مال اليتيم، ولا تجعلوا مخالطتكم إيَّاهم ذريعةً إلى إفساد أموالهم، وأكلها بغير حق. اهـ.
وجاء في فتاوى السبكي: اختلف الأصحاب في التجارة بمال اليتيم هل هي واجبة، أو مستحبة؟ والأصح في المذهب أنها واجبة بقدر النفقة، والزكاة، وينبغي أن يكون مراد الأصحاب من هذا التقدير أن الزائد لا يجب، ويقتصر الوجوب على هذا المقدار، ولا شك أن ذلك مشروط بالإمكان، والتيسير، والسهولة، أما إنه يجب على الولي ذلك، ولا بد، فلا يمكن القول به؛ لأنا نرى التجار الحاذقين أرباب الأموال يكدون أنفسهم لمصالحهم، ولا يقدرون في الغالب على كسبهم من الفائدة بقدر كلفتهم، وأين ذاك؟ ولعل هذا قاله الأصحاب حين كان الكسب متيسرا، ولا مكس، ولا ظلم، ولا خوف، وأما اليوم: فهذا أعز شيء يكون، وكثير من التجار يخسرون، ولو كان كل من معه مال يقدر أن يستنميه بقدر نفقته كانوا هم سعداء، ونحن نرى أكثرهم معسرين، والإنسان يشفق على نفسه أكثر من كل أحد، فلو كان ذلك ممكنا لفعلوه، فكيف يكلف به ولي اليتيم؟! وإنما يحمل كلام الأصحاب على معنى أن ذلك واجب عند السهولة، والزائد عليه لا يجب عند السهولة، ولا عند غيرها، وأخذوا ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم، ما روي: اتجروا في أموال اليتامى، كي لا تأكلها الصدقة، أو النفقة ـ أو كما قال، وقد شرط الأصحاب في جواز التجارة لليتيم شروطا، ومع ذلك هي عند اجتماع الشروط خطرة؛ لأن الأسعار غير موثوق بها، وقد يشتري سلعة فتكسد، ويحتاج اليتيم إلى نفقة فيضطر إلى بيعها بخسران، أو يترشد فيدعي عليه أن شراءها كان على خلاف المصلحة، أو بتسلط الظلمة على الولي فيما يطرحونه من أموالهم على من له عادة بالشراء، ويلزمونه أن يشتريه لليتيم، ولا يقدر على دفعهم، فينبغي لولي اليتيم أن يجتهد، وحيث غلب على ظنه غلبة قوة مصلحة اليتيم التي أشار الشارع إليها يفعلها، وهو مع ذلك تحت هذا الخطر الدنيوي، وبحسب قصده يعينه الله عليه، والقول بالاستحباب في هذه الحالة جيد، والقول بالوجوب مستنده ظاهر الأمر، ولا شك أنه مشروط بما قلناه، والأمر فيه خطر، والله يعلم المفسد من المصلح، وذلك من جملة المشاق التي في تولي مال اليتيم التي أشار الشارع إليها في قوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: إني أراك ضعيفا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال اليتيم. اهـ.
والله أعلم.