الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فقد أطلق جمهور العلماء القول بأن إلقاء المصحف في أماكن القاذورات كفر -ونُقل الإجماع على ذلك-، ولم يقيدوا ذلك بنية فاعله، وذلك لأن الأصل أن إلقاء المصحف في القاذورات يتضمن الاستخفاف بكلام الله سبحانه.
لكن نص بعض فقهاء الشافعية على تقييد ذلك بألا توجد قرينة تدل على عدم الاستخفاف -كأن يكون إلقاء المصحف في القاذورة خشية أخذ كافر له، أو نحو ذلك-، فلا كفر حينئذ.
قال النووي في المجموع شرح المهذب: أجمعوا على أن من استخف بالقرآن، أو بشيء منه، أو بالمصحف، أو ألقاه في قاذورة...: كفر. اهـ.
وقال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى: قد اتفق المسلمون على أن من استخف بالمصحف؛ مثل أن يلقيه في الحش، أو يركضه برجله إهانة له، أنه كافر مباح الدم. اهـ.
وقال تقي الدين السبكي في فتاواه: يحكم على من سجد للصنم، أو ألقى المصحف في القاذورات بالكفر، وإن لم يجحد بقلبه؛ لقيام الإجماع على تكفير فاعل ذلك. اهـ.
وفي المذهب الحنفي: قال ابن عابدين في رد المحتار: لو سجد لصنم، أو وضع مصحفًا في قاذورة فإنه يكفر؛ وإن كان مصدقًا؛ لأن ذلك في حكم التكذيب، كما أفاده في شرح العقائد، وأشار إلى ذلك بقوله للاستخفاف، فإن فعل ذلك استخفاف، واستهانة بالدين فهو أمارة عدم التصديق. اهـ.
وفي المذهب المالكي: قال خليل في مختصره: الردة: كفر المسلم بصريح، أو لفظ يقتضيه، أو فعل يتضمنه: كإلقاء مصحف بقذر.
جاء في الشرح الكبير للدردير: (كإلقاء مصحف بقذر) ولو طاهرا؛ كبصاق، أو تلطيخه به، والمراد بالمصحف ما فيه قرآن ولو كلمة، ومثل ذلك تركه به أي عدم رفعه إن وجده به؛ لأن الدوام كالابتداء، فأراد بالفعل ما يشمل الترك إذ هو فعل نفسي، ومثل القرآن أسماء الله، وأسماء الأنبياء، وكذا الحديث كما هو ظاهر، وحرق ما ذكر إن كان على وجه الاستخفاف فكذلك، وإن كان على وجه صيانته؛ فلا ضرر، بل ربما وجب، وكذا كتب الفقه إن كان على وجه الاستخفاف بالشريعة فكذلك، وإلا فلا. اهـ.
وفي المذهب الحنبلي: جاء في دليل الطالب لنيل المطالب لمرعي الكرمي: يحصل الكفر بأحد أربعة أمور:
بالقول: كَسَبِّ الله تعالى، ورسوله، أو ملائكته، أو ادعاء النبوة، أو الشركة له تعالى.
بالفعل: كالسجود للصنم ونحوه، وكإلقاء المصحف في قاذورة.
بالاعتقاد: كاعتقاد الشريك له تعالى. اهـ.
وأما المذهب الشافعي: فقد جاء في شرح المحلي على منهاج الطالبين: (والفعل المكفر ما تعمده استهزاء صريحا بالدين أو جحودا له كإلقاء مصحف بقاذورة) بإعجام الذال، (وسجود لصنم أو شمس) فكل من الثلاثة ناشئ عن استهزاء بالدين أو جحود له. اهـ.
وفي حاشية قليوبي عليه: (كإلقاء مصحف بقاذورة) المراد بالمصحف ما فيه قرآن، ومثله الحديث، وكل علم شرعي، أو ما عليه اسم معظم، قال شيخنا الرملي: ولا بد في غير القرآن من قرينة تدل على الإهانة، وإلا فلا. اهـ.
وفي أسنى المطالب في شرح روض الطالب لزكريا الأنصاري: (وهي قطع الإسلام إما بتعمد فعل) ولو بقلبه استهزاء، أو جحودا (كسجود لصنم، وإلقاء مصحف) أو نحوه ككتب الحديث (في قذر استخفافا) أي على وجه يدل على الاستخفاف بهما، وكأنه احترز به في الأولى عما لو سجد بدار الحرب، فلا يكفر كما نقله القاضي عن النص، وإن زعم الزركشي أن المشهور خلافه، وفي الثانية عما لو ألقاه في قذر خيفة أخذ الكفار له، إذ الظاهر أنه لا يكفر به، وإن حرم عليه. اهـ.
وقال الهيتمي في تحفة المحتاج: إن دلت قرينة قوية على عدم دلالة الفعل على الاستخفاف كأن كان الإلقاء لخشية أخذ كافر أو السجود من أسير في دار الحرب بحضرتهم فلا كفر .اهـ.
وقال أيضا في الإعلام بقواطع الإسلام: ومنها: إلقاء المصحف في القاذورات لغير عذر ولا قرينة تدل على عدم الاستهزاء وإن ضعفت. اهـ.
وأما الأوراق المشتملة على آية من القرآن الكريم: فحكمها حكم المصحف -كما تقدم في كلام الدردير المالكي، وقليوبي الشافعي-.
فالخلاصة: أن الأصل أن إلقاء المصحف أو نحوه في القاذورات كفر، لتضمنه للاستخفاف لكلام الله، إلا إذا وجدت قرينة تدل على عدم الاستخفاف فلا كفر حينئذ.
ونية التخلص من المصحف لا يسوِّغ إلقاءه في القمامة، بل التخلص من المصحف ونحوه يجب أن يكون بطريقة ليس فيها امتهان للقرآن الكريم، وذلك بالحرق، أو الدفن، أو نحو ذلك من الطرق المبينة في الفتوى: 411673.
والله أعلم.