السؤال
أدرس تفسير القرآن الكريم للصابوني بترتيب النزول، فبدأت بقراءة تفسير سور العلق، والقلم، والمزمل، والمدثر، والفاتحة، والمسد، وقد أشكل عليّ أن بعض السور نزلت مقطعة، فسورة العلق نزلت منها أول 5 آيات، وفهمت أن الوحي فتر فترة، وأن الجهر بالدعوة كان بعد 3 سنوات من أول نزول، فهل نزلت بقية العلق، والقلم، والمزمل، والمدثر بعد الجهر؟ ألم تنزل آية: "وَأَنذِر عَشيرَتَكَ الأَقرَبينَ"، ثم جهر بالدعوة، وكذا بداية سورة الشعراء: "لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفسَكَ أَلّا يَكونوا مُؤمِنينَ" إلى الآية السادسة، ثم نزلت سورة المسد؟
وقد راجعت ترتيب نزول السور في موقعكم، وفي الحديث الذي رواه البيهقي، وحاولت التتبع؛ لأشعر بتأثير القرآن، وكيف أصلح النفوس تدريجيًّا، وأنا حاليًّا أقرأُ السيرة (لإبراهيم العلي)، فهلا أرشدتموني لمبحث مفصل في ترتيب نزول الآيات؛ حتى أدرس التفسير، مع العيش في أحداث التنزيل؛ لأزيد فهمي للقرآن، وللنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولسيرته، ولأتمكّن من إسقاط التطبيقات على حياتي؛ فأكون مسلمة بحق.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فلا شك أن نزول القرآن كان مفرّقًا على حسب الوقائع والأحداث، وما أراده الله تعالى بحكمته، وقد بين الله تعالى أنه أنزله مفرقًا، وبين الحكمة من ذلك، كما في قول الله تعالى: وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا {الإسراء:106}، وقال جل جلاله: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا * وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا {الفرقان:32-33}.
والسورة الواحدة قد يكون نزولها مفرقًا: بعضها مكي، وبعضها مدني، كما قيل في سورة الأنعام: إنها نزلت جملة واحدة بمكة، إلا ثلاث آيات بالمدينة، قال الشوكاني في فتح القدير: أَخْرَجَ النَّحَّاسُ فِي تَارِيخِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سُورَةُ الْأَنْعَامِ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَهِيَ مَكِّيَّةٌ، إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْهَا نَزَلْنَ بِالْمَدِينَةِ: "قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ" إِلَى تَمَامِ الآيات الثلاث. اهــ.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزلت عليه الآية، يأمر الصحابة بكتابتها في موضعها من سورة معينة، كما في سنن الترمذي، وحسنه عن عُثْمَانُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ وَهُوَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ السُّوَرُ ذَوَاتُ الْعَدَدِ، فَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ، دَعَا بَعْضَ مَنْ كَانَ يَكْتُبُ، فَيَقُولُ: ضَعُوا هَؤُلاَءِ الآيَاتِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا. وَإِذَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ الآيَةَ، فَيَقُولُ: ضَعُوا هَذِهِ الآيَةَ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا. اهــ.
وسورة العلق، وسورة المدثر مكيّتان بالاتفاق، كما ذكر القرطبي في تفسيره.
ولم نقف على كلام لأهل العلم في وقت نزول بقية السور، وهل نزلت قبل الجهر بالدعوة أم بعد الجهر.
وسورة القلم، وسورة المزمل: قيل: مكيتان كلتاهما، وقيل: نزل بعضهما في مكة، وبعضهما في المدينة، وراجعي تفسير القرطبي.
ولا نعلم كتابًا معينًا يعتني ببيان وقت نزول كل آية في القرآن.
وفهم القرآن لا يتوقف على معرفة هذا التدقيق.
ويكفي أن تفهمي تفسير الآيات، وأسباب نزولها، ومعرفة ترتيب ما ذُكِرَ منها.
والله أعلم.