الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فذكر القبر في هذا الموضع من كتاب العلل مشكل؛ لأسباب:
* منها: أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم ليس باديًا للزائرين، وإنما دونه حائط، فكيف يُمسح أو يُقبَّل؟! قال شيخ الإسلام ابن تيمية في «اقتضاء الصراط المستقيم» خلال كلامه على معنى اتخاذ قبر النبي صلى الله عليه وسلم عيدًا، قال: ولهذا كرهت الأئمة استلام القبر، وتقبيله، وبنوه بناء منعوا الناس أن يصلوا إليه. اهـ.
* ومنها: أن لفظ سؤال عبد الله بن الإمام أحمد فيه غرابة، فهو كما نقل السائل عن كتاب: «العلل ومعرفة الرجال للإمام أحمد، رواية ابنه عبد الله»: سألته عن الرجل يمسّ منبر النبي صلى الله عليه وسلم، ويتبرك بمسّه، ويقبّله، ويفعل بالقبر مثل ذلك، أو نحو هذا، يريد بذلك التقرب إلى الله جل وعز؟ فقال: لا بأس بذلك. اهـ.
وذكر التقبيل هنا مستغرب! وأغرب منه ذكر القبر في عبارة: "ويفعل بالقبر مثل ذلك"، ولا سيما وقد قال بعدها: "أو نحو هذا"، وهذه العبارة ليست معهودة في أسئلة عبد الله لأبيه، أن يقول بعد السؤال: "أو نحو هذا"، وإنما يذكر هذا في الجواب نفسه، أحيانًا قليلة؛ مما يوقع الشك في لفظ السؤال!
ومنها: أن المعروف عن الإمام أحمد الذي ينقله عنه أئمة الحنابلة، هو المتعلق بالمنبر، والرمانة حيث كان يجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ويضع يده، وذلك بمسحه، ومسّه، لا بتقبيله، وأما القبر فلا، جاء في كتاب: «مسائل الإمام أحمد رواية ابنه صالح» في الذي يدخل المدينة: لا يمسّ الحائط، ويضع يده على الرمانة، وموضع الذي جلس فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يقبّل الحائط ... اهـ.
وقال القاضي أبو يعلى الفراء في «المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين»: نقل الأثرم: قلت لأبي عبد الله: قبر النبي صلى الله عليه وسلم يُمسّ، ويُتمسح به؟ فقال: ما أعرف هذا. قلت له: فالمنبر؟ قال: أما المنبر، فنعم، قد جاء فيه. قيل لأبي عبد الله: إنهم يلصقون بطونهم بجدار القبر. وقيل له: رأيتَ من أهل العلم من أهل المدينة لا يمسون ويقومون ناحية، فيسلمون؟ قال أبو عبد الله ـ رحمه الله ـ: نعم، وهكذا كان ابن عمر يفعل. وهذه الرواية تدل على أنه ليس بسنة وضع اليد على القبر. اهـ.
فهذا هو المعروف عن الإمام أحمد، وهو الذي نقله عنه كبار أهل مذهبه، كما قال ابن قدامة في «المغني»: ولا يستحب التمسح بحائط قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تقبيله، قال أحمد: ما أعرف هذا. قال الأثرم: رأيت أهل العلم من أهل المدينة لا يمسون قبر النبي صلى الله عليه وسلم، يقومون من ناحية، فيسلمون؟ قال أبو عبد الله: وهكذا كان ابن عمر يفعل. قال: أما المنبر، فقد جاء فيه. يعنى ما رواه إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه نظر إلى ابن عمر، وهو يضع يده على مقعد النبي صلى الله عليه وسلم من المنبر، ثم يضعها على وجهه. اهـ.
ورواية الأثرم هذه نقلها غير واحد من الحنابلة، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية، كما في "اقتضاء الصراط المستقيم"، وفي "الإخنائية".
وقال شيخ الإسلام في «الإخنائية»: روى أبو الحسن علي بن عمر القزويني في أماليه، قال: قرأت على عبيد الله الزهري، قلت له: حدثك أبوك، قال: حدثني عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال سمعت أبا زيد حماد بن دليل، قال لسفيان -يعني ابن عيينة- قال: كان أحد يتمسح بالقبر؟ قال: لا، ولا يلتزم القبر، ولكن يدنو. قال أبي: يعني الإعظام لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وحماد بن دليل هذا الذي سمعه أحمد يسأل ابن عيينة، هو معروف من أهل العلم، وروى عنه أبو داود، وكان قاضي المدائن. اهـ.
وذكر روايات أخرى من طريق الإمام أحمد في هذا المعنى.
والمقصود أن التمسح بالقبر فضلًا عن تقبيله: غير محفوظ عن الإمام أحمد، وإنما ذلك في المنبر، والرمانة، على خلاف بين أهل العلم في ذلك أيضًا، قال شيخ الإسلام في «اقتضاء الصراط المستقيم»: رخص أحمد، وغيره في التمسح بالمنبر والرمانة، التي هي موضع مقعد النبي صلى الله عليه وسلم، ويده، ولم يرخصوا في التمسّح بقبره. وقد حكى بعض أصحابنا رواية في مسح قبره؛ لأن أحمد شيّع بعض الموتى، فوضع يده على قبره يدعو له. والفرق بين الموضعين ظاهر. وكره مالك التمسح بالمنبر. كما كرهوا التمسح بالقبر. فأما اليوم فقد احترق المنبر، وما بقيت الرمانة، وإنما بقي من المنبر خشبة صغيرة، فقد زال ما رخص فيه؛ لأن الأثر المنقول عن ابن عمر، وغيره، إنما هو التمسح بمقعده. اهـ.
وقال في رسالة: «زيارة القبور»: اتفق العلماء على أن من زار قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو قبر غيره من الأنبياء والصالحين -الصحابة، وأهل البيت، وغيرهم- أنه لا يتمسح به، ولا يقبّله ... حتى تنازع الفقهاء في وضع اليد على منبر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما كان موجودًا، فكرهه مالك، وغيره؛ لأنه بدعة، وذكر أن مالكًا لما رأى عطاء فعل ذلك، لم يأخذ عنه العلم، ورخّص فيه أحمد، وغيره؛ لأن ابن عمر -رضي الله عنهما- فعله. وأما التمسح بقبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقبيله، فكلهم كره ذلك، ونهى عنه؛ وذلك لأنهم علموا ما قصده النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حسم مادة الشرك، وتحقيق التوحيد، وإخلاص الدين لله رب العالمين. اهـ.
وقال الغزالي في «الإحياء»: المس، والتقبيل للمشاهد، عادة النصارى واليهود. اهـ.
وذكر النووي في «المجموع» كراهة مسح قبره -صلى الله عليه وسلم- باليد، وتقبيله، ثم قال: هذا هو الصواب الذي قاله العلماء، وأطبقوا عليه، ولا يغتر بمخالفة كثيرين من العوام، وفعلهم ذلك؛ فإن الاقتداء والعمل إنما يكون بالأحاديث الصحيحة، وأقوال العلماء، ولا يلتفت إلى محدثات العوام، وغيرهم، وجهالاتهم، وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أحدث في ديننا ما ليس منه، فهو رد)، وفي رواية لمسلم: (من عمل عملًا ليس عليه عملنا، فهو رد)، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تجعلوا قبري عيدًا، وصلّوا علي، فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم). رواه أبو داود بإسناد صحيح. وقال الفضيل بن عياض -رحمه الله- ما معناه: "اتبع طرق الهدى، ولا يضرّك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة، ولا تغترّ بكثرة الهالكين".
ومن خطر بباله أن المسح باليد، ونحوه أبلغ في البركة، فهو من جهالته، وغفلته؛ لأن البركة إنما هي فيما وافق الشرع، وكيف ينبغي الفضل في مخالفة الصواب! اهـ.
وعلى أية حال؛ فإذا وقع الخلاف، فالترجيح يكون باعتبار الأدلة الشرعية، والمحفوظ من فعل الصحابة -رضي الله عنهم-، ولا سيما الخلفاء الراشدين منهم.
ومن المفيد هنا نقل طرف من كلام العلامة المعلمي اليماني في كتابه: (رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله وتحقيق معنى التوحيد والشرك بالله) حيث قال: إن قال النصارى: إنَّنا إنما نعظِّم خشبة الصليب؛ بناءً على أنَّ عيسى -عليه السلام- صُلِبَ عليها، وأنتم تعظِّمون الكعبة، والحجر الأسود، ومقام إبراهيم، وزمزم، وغيرَها من آثار إبراهيم، وقد نُقِلَ عن أصحاب نبيِّكم أنهم كانوا يعظِّمون منبره، والرُّمَّانة التي كانت عليه، ويعظّمون ثيابه، والقدح الذي شرب فيه، وشعره الذي كان محفوظًا عندهم، وأنتم تعظّمون قبره، وآثاره، وقبور من تظنُّون بهم الصلاح، وآثارهم، ونحن إنما نعظِّم شكل الصليب؛ لأنه يشبه تلك الخشبة، والمسلمون الآن يعظِّمون صورة نعل نبيِّهم، وصورة البراق، كما تخيّلوه.
قلنا: أمَّا أنتم فليس عندكم سلطان من الله تعالى بتعظيم خشبة الصليب، ولا تعظيم صورتها.
وأمَّا صلاتنا إلى الكعبة، وطوافنا بها، وتقبيلنا الحجر الأسود، وصلاتنا إلى مقام إبراهيم، فكلُّ ذلك عندنا به سلطان من الله عزَّ وجلَّ، ولسنا نصنع شيئًا من ذلك لأنها آثار، وإنما نصنع ذلك طاعة لله عزَّ وجلَّ، وامتثالًا لأمره.
وأصحاب نبيِّنا صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يصنعون ما يصنعون إلَاّ على سبيل التماس البركة، وكان عندهم سلطان من الله تعالى؛ لأنَّ نبيَّه صلى الله عليه وسلم أقرَّهم على ذلك؛ ولهذا لم يجاوزوا ما أقرَّهم عليه، فلم يكونوا يركعون ولا يسجدون له -صلى الله عليه وسلم-، ولا يقومون له إذا جاءهم وهم جلوس، ولا للمنبر، ولا لرُمّانته، ولا لغير ذلك من الآثار. بل أعظم ما رُوي عنهم هو وضع اليد على رُمَّانة المنبر، حيث كان -صلى الله عليه وسلم- يضع يده.
وأما ثيابه وشعره، فكانوا يغسلونها، ويسقون المرضى من غُسَالتها.
وأما القَدَح فإنما كانوا يحبّون الشرب فيه، وكلُّ ذلك عندهم فيه سلطان، إمَّا فيه بخصوصه، أو في نظيره.
فأمَّا صورة النعل، والبراق، فخطأ من فاعلها.
وبالجملة؛ فالمدار على السلطان، فكلُّ ما أنزل الله به سلطانًا، فهو حق، وكلُّ ما لم ينزل به سلطانًا، فهو باطل، وإن وقع فيه بعض المسلمين. اهـ.
والله أعلم.