السؤال
أعلم أن الدين عند الله الإسلام، وأن جميع الأنبياء كانوا مسلمين، فإذا كانت كل الأديان السماوية من عند الله، فما سبب الاختلافات الكبيرة بينها؟ والاختلاف في الأساس، والأركان، فالمسيحيون يتزوجون واحدة فقط، ولا حج في المسيحية، ولا صلاة مثل ما تعلمنا.
وإذا كان الأنبياء علموا الإسلام، فما سبب اختلاف إسلام عيسى-عليه السلام، عن إسلام محمد صلى الله عليه وسلم؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالإسلام له معنى عام، ومعنى خاص:
فالعام هو: الاستسلام لله بطاعته، واتباع رسله.
والخاص: علم على رسالة النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، واتباع شريعته.
وهو بمعناه العام دين جميع الأنبياء والمرسلين.
وأما معناه الخاص، فمتعلق بأمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وراجع الفتويين: 813، 69531.
وأصل الدين هو: توحيد الله تعالى، وإسلام الوجه له، وطاعته، واتباع رسله.
وأما مسائل الحلال والحرام، فهي فروع لهذا الأصل.
ومع ذلك؛ فقد جاءت الشرائع متفقة في كلياتها، ومبادئها، وقواعدها، وأهدافها، وراجع في ذلك الفتوى: 295546.
ومن أمثلة ذلك: مسألة الزواج التي ذكرها السائل عن النصارى، من أنهم لا يبيحون التعدد ولا يتزوجون إلا بواحدة.
فإن سلمنا أن ذلك مأخوذ من شريعة عيسى -عليه السلام-، بقي أن المبدأ متفق، وهو تشريع الزواج، وتحريم الزنى، ثم تحريم الزواج بالأمهات، والبنات، والأخوات.
ومع ذلك؛ فنحن لا نقر بأن منع التعدد مأخوذ من شريعة عيسى -عليه السلام-، جاء في بحث (تعدد زوجات النبي محمد صلى الله عليه وسلم كدليل نبوة وصدق رسالة): لم يرد في الأناجيل نص صريح يمنع التعدد، وقد كان في أقدم عصور المسيحية من يرى إباحة تعدد الزوجات في أمكنة مخصوصة، وأحوال استثنائية، وقد ثبت تاريخيًّا أن بين المسيحين الأقدمين من كانوا يتزوجون أكثر من واحدة، ويشهد لذلك [وستر مارك] العالم في تاريخ الزواج، فيقول: "إن تعدد الزوجات باعتراف الكنيسة بقي إلى القرن السابع عشر، وكان يتكرر كثيرًا في الحالات التي لا تحصيها الكنيسة والدولة". ويقول أيضًا: "إن ملوك النصارى كانوا يتزوجون أكثر من واحدة". ولقد ذهبت بعض الطوائف المسيحية إلى إيجاب تعدد الزوجات. فالشريعة النصرانية ليس فيها نص صريح يمنع أتباعها من التزوج بامرأتين فأكثر، ولكن رؤساءها القدماء، وجدوا الاكتفاء بزوجة واحدة لحفظ نظام العائلة، وكان ذلك شائعًا في الدولة الرومانية، فلم يعجزهم تأويل ما يخص الزواج من كتبهم -الأناجيل- حتى صار التزوج بغير امرأة حرامًا، كما هو مشهور، وليس هذا بالأمر المُستغرب، فلقد حُرِّف، وضُيِّع الإنجيل كاملًا وفقًا للأهواء والمصالح، مثلما حرفت التوراة من قبله. اهـ.
وهكذا يقال في كثير من مواضع الخلاف بين الشرائع: إن سببه هو التحريف الذي وقع فيه أهل الكتاب.
وما ثبت الخلاف فيه، فهو في فروع الدين، وليس في أصله؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الأنبياء إخوة من علات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد. متفق عليه.
وعلى أية حال؛ فالله تعالى الذي قال: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى:13]، هو الذي قال: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48]، قال ابن كثير في تفسيره: الدين الذي جاءت به الرسل كلهم هو: عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} [الأنبياء:25]، وفي الحديث: "نحن معشر الأنبياء أولاد علات، ديننا واحد"، أي: القدر المشترك بينهم هو عبادة الله وحده لا شريك له، وإن اختلفت شرائعهم ومناهجهم، كقوله تعالى: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا} [المائدة:48]؛ ولهذا قال ها هنا: {أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه}، أي: وصى الله سبحانه وتعالى جميع الأنبياء -عليهم السلام- بالائتلاف، والجماعة، ونهاهم عن الافتراق، والاختلاف. اهـ.
والله أعلم.