السؤال
هل يصح الاعتكاف في البيت ما دامت المساجد مغلقة بسبب وباء كورونا؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فقد عرف العلماء الاعتكاف بأنه لزوم مسجد لطاعة الله تعالى، فالاعتكاف عبادة مخصوصة بالمسجد، فلا تصحّ في غيره، دلَّ على ذلك الكتاب، والسنة، قال الله تعالى: وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ {البقرة:187}، وقال تعالى: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ {البقرة:125}.
وقد اعتكف النبي صلى الله عليه وسلم، واعتكف أزواجه وأصحابه معه، وبعده، وكل اعتكافاتهم كانت في المساجد.
وقد نقل الإجماع على اشتراط المسجد لصحة الاعتكاف غير واحد من الأئمة، قال أبو الحسن ابن القطان في الإقناع في مسائل الإجماع: وأجمعوا أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد؛ لقوله عز وجل: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}، واختلفوا في المراد بالمساجد في الآية. اهـ.
وقال الحافظ ابن عبد البر في التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد: وَأَمَّا فِي الشَّرِيعَةِ، فَمَعْنَاهُ: الْإِقَامَةُ عَلَى الطَّاعَةِ، وَعَمَلُ الْبِرِّ، عَلَى حَسَبِ مَا وَرَدَ مِنْ سُنَنِ الِاعْتِكَافِ.
فَمِمَّا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ مِنْ ذَلِكَ: أَنَّ الِاعْتِكَافَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: (وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ). انتهى.
وقال ابن بطال في شرح صحيح البخاري: وأجمع العلماء أن الاعتكاف لا يكون إلا في المساجد؛ لقوله تعالى: (وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ). انتهى.
قال ابن قدامة في المغني: ولا يصحّ الاعتكاف في غير مسجد إذا كان المعتكف رجلًا، لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا.
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}، فَخَصَّهَا بِذَلِكَ.
وَلَوْ صَحَّ الِاعْتِكَافُ فِي غَيْرِهَا، لَمْ يَخْتَصَّ تَحْرِيمُ الْمُبَاشَرَةِ فِيهَا; فَإِنَّ الْمُبَاشَرَةَ مُحَرَّمَةٌ فِي الِاعْتِكَافِ مُطْلَقًا.
وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ، قَالَتْ: {إنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُدْخِلَ عَلَيَّ رَأْسَهُ، وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، فَأُرَجِّلُهُ، وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إلَّا لِحَاجَةٍ إذَا كَانَ مُعْتَكِفًا}، وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ عَائِشَةَ، فِي حَدِيثٍ: {وَأَنَّ السُّنَّةَ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ لَا يَخْرُجَ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ، وَلَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ}. انتهى.
وقال الألوسي في تفسيره: وفي تقييد الاعتكاف بالمساجد، دليل على أنه لا يصح إلا في المسجد؛ إذ لو جاز شرعًا في غيره، لجاز في البيت، وهو باطل بالإجماع. انتهى.
وقد كرر شيخ الإسلام ابن تيمية في كتبه نقل اتفاق الأئمة على أن الاعتكاف عبادة مخصوصة بالمساجد، قال في مجموع الفتاوى: "وَالْأَمَاكِنُ الْمُفَضَّلَةُ هِيَ الْمَسَاجِدُ وَهِيَ أَحَبُّ الْبِقَاعِ إلَى اللَّهِ؛ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِيهَا الِاعْتِكَافُ فَلَا يَكُونُ الِاعْتِكَافُ إلَّا فِي الْمَسَاجِدِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}" انتهى
وقال في اقتضاء الصراط المستقيم: "والاعتكاف من العبادات المشروعة بالمساجد باتفاق الأئمة، كما قال تعالى {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] أي: في حال عكوفكم في المساجد لا تباشروهن، وإن كانت المباشرة خارج المسجد. ولهذا قال الفقهاء: إن ركن الاعتكاف: لزوم المسجد لعبادة الله. ومحظوره الذي يبطله: مباشرة النساء." انتهى
وقال في رسالة له في الرد على الإخنائي: "ولهذا لا يجوز الاعتكاف إلا في مسجد باتفاق الأئمة، ولو نذره في غير مسجد لم يوف بنذره فإنه غير جائز." انتهى
إذا تقرر هذا؛ فمن أمكنه أن يعتكف في المسجد، فليفعل.
ومن حيل بينه وبين ذلك، فالله يثيبه على نيته، ومقدار عزمه، فقد أخرج البخاري ومسلم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، قَالَ: إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا، كَتَبَهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَإِنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا، كَتَبَهَا اللهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً.
وأخرج البخاري، وغيره عن أبي بُرْدَةَ قال: سَمِعْتُ أَبَا مُوسَى مِرَارًا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا مَرِضَ العَبْدُ، أَوْ سَافَرَ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا.
وليعلم المؤمن أن الله نوَّع أبواب العبادة، بحيث إذا سُدَّ على العبد باب، فتحت له منها أبواب.
والاجتهاد في العبادة في رمضان، وفي عشره الأواخر غير مقصور على الاعتكاف.
فعلى طالب القُرْب من الله تعالى، والساعي في مرضاته أن يطلب ذلك، ويسعى إليه في كل أحواله.
وليسأل الله تعالى أن يتقبل منه، وأن لا يردّ عليه عمله، وأن لا يجعل للنفس، ولا للشيطان من ذلك نصيب.
والله أعلم.
يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني