السؤال
يقول بعض الملحدين إن أول سيرة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، قد كتبها ابن إسحاق، وتمت كتابتها بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ب 130 عاما. اعتمد فيها، على قناة شفويّة تمرّ من جيل إلى جيل، مما يعني إمكانية التدليس والكذب، بل والتأليف فيها. وأن ما كان فيها قد لا يكون هو الحقيقة بأكملها، كما أن بعض العلماء قد اتهموه بالتدليس بالفعل، مع العلم بأنه عندما كتب ابن إسحاق سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه قد فعل هذا بأمر من الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور، الذي هو من بني هاشم ويريد الخير لقومه بطبيعة الحال، فقد يؤثر على بعض أو حتى كثير مما كتب ابن إسحاق سواء بإزالة ما قد يشين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أو وضع ما يزيد من قدره الشريف، فأبو جعفر المنصور هو الذي سيكافئ ابن إسحاق إن وجد فيه ما يسعده. وهو أيضا الذي سيعاقب ابن إسحاق إن وجد في السيرة ما يزعجه.
ويكملون قائلين بأن ابن هشام قد قام بتنقيح سيرة ابن إسحاق، وإزالة ما قد استخدم ضد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وتجميل صورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل وإزالة أشعار الهجاء التي قالها المشركون ضد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والتي كان يمكن -على حد قولهم- أن نعرف منها الكثير عن حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وصفاته التي كان من الممكن أن تغير الكثير من الآراء قبل أن يتم التنقيح.
وكما قال ابن هشام في المقدمة أنه قام بتنقيح السيرة مما قد يشين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا يعني إمكانية إزالته للأشعار التي كان العرب يهجون بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والتي كان من الممكن أن نتعرف من خلالها رأيهم فيه، واعتراضاتهم عليه، ومواقف من حياته وجوانب من شخصيته.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذا الكلام لا وزن له في ميزان العلم والنقد المنهجي، سواء من الناحية التاريخية، أو من ناحية علوم الرواية والنقد الحديثي! فليست كتب السِّيَر بصفة عامة هي المصدر الأول ولا حتى الثاني، من مصادر السيرة النبوية. وليست سيرة ابن إسحاق هي أول ما أُلِّف في السيرة النبوية الخالصة .. وليس كل ما روى ابن إسحاق مقبولا محتجا به، بل المعول على النظر في أسانيده، ثم مقارنة متون ما صح منها أو قارب الصحيح، بمرويات السنة النبوية الأخرى. وهذا يخضع لأصول علم الحديث والإسناد، ونقد الروايات، شأنه شأن الطريقة العلمية لقبول المرويات بصفة عامة. وهذا العلم من مفاخر هذه الأمة التي انفردت بها، وراجع في ذلك الفتويين: 132402، 184271.
وإذا اتضح ذلك، لم يبق أي معنى للطعن في كتاب مسند لكونه ألف بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بزمن! لأن المعول على النظر في الأسانيد، فما صح منها قُبِل، وما لم يصح لم يقبل. وإلا فأصح كتاب بعد القرآن المجيد -نعني صحيح الإمام البخاري- قد ولد صاحبه بعد موت ابن إسحاق بنصف قرن تقريبا (43 سنة) حيث ولد البخاري سنة 194هـ، ومات ابن إسحاق سنة 151 هـ. ومع ذلك فالطعن في صحيح البخاري بكونه ألِّف بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بقرنين: لا يصح، لأن البخاري لا ينسب شيئا للنبي صلى الله عليه وسلم من قِبل نفسه، وإنما يروي ذلك بأسانيد صحيحة، تسد الفجوة الزمنية بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك الحال في كل كتاب مسند، فمن أسند فقد أحالك على إسناده، والنظر في أحوال رواته.
وأما بالنسبة للكلام على اختصار ابن هشام لسيرة ابن إسحاق، فلا طائل تحته، فإن المختصر لم يلغ الأصل ولم ينسخه! بل بقيت سيرة ابن إسحاق مقروءة متداولة بين أهل العلم لقرون متطاولة، وقد وصل إلينا بعضها وطبع، كما قام بعض الباحثين بجمع سيرة ابن إسحاق من خلال الكتب المسندة التي اعتمدت عليه، ككتب الحديث والتاريخ ودلائل النبوة.
على أن ابن هشام قد صرح بفعله في مقدمة اختصاره، وذكر سببه فقال: وتارك بعض ما ذكره ابن إسحاق في هذا الكتاب، مما ليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ذكر. ولا نزل فيه من القرآن شيء، وليس سببا لشيء من هذا الكتاب، ولا تفسيرا له، ولا شاهدا عليه، لما ذكرت من الاختصار، وأشعارا ذكرها لم أر أحدا من أهل العلم بالشعر يعرفها، وأشياء بعضها يشنع الحديث به، وبعض يسوء بعض الناس ذكره، وبعض لم يقر لنا البكائي بروايته، ومستقص -إن شاء الله تعالى- ما سوى ذلك منه بمبلغ الرواية له، والعلم به. اهـ.
فالأشعار التي حذفها ابن هشام هو التي لا يعرفها أهل العلم بالشعر، فهي أشعار منتحلة، ومع انتحال أغلبها فقد أكثر منها ابن إسحاق بلا طائل.
كما قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: ولا ريب أن ابن إسحاق كثَّرَ وَطوَّلَ بأنساب مستوفاة، اختصارها أملح، وبأشعار غير طائلة، حذفها أرجح، وبآثار لم تصحح، مع أنه فاته شيء كثير من الصحيح، لم يكن عنده، فكتابه محتاج إلى تنقيح وتصحيح، ورواية ما فاته. اهـ.
وقال الأستاذ الدكتور أكرم العمري في مقدمة كتابه: (السيرة النبوية الصحيحة، محاولة لتطبيق قواعد المحدثين في نقد روايات السيرة النبوية) عن سيرة ابن هشام: هي تهذيب لسيرة ابن إسحق، حيث حذف ابن هشام منها كثيراً من الإسرائيليات والأشعار المنتحلة، وأضاف إليها معلومات في اللغة والأنساب، مما جعلها -بعد التهذيب- تنال رضا جمهور العلماء، فليس من مؤلف بعده إلا كان عيالاً عليه. اهـ.
ثم اعلم أن المصدر الأول للسيرة النبوية هو القرآن الكريم، ثم كتب الحديث المعتمدة، ثم كتب السيرة والتاريخ والشمائل والدلائل. وفي غير القرآن لا بد من النظر في حال الرواة والمتون، على وفق مناهج المحدثين، كما سبقت الإشارة إليه.
قال الدكتور أكرم العمري في مقدمة كتابه (السيرة النبوية الصحيحة): أما كتب السيرة المختصة فإنها تلي من حيث الدقة القرآن الكريم والحديث الشريف، ومما يعطيها قيمة علمية كبيرة أن أوائلها كتبت في وقت مبكر جداً، وعلى وجه التحديد في جيل التابعين حيث كان الصحابة موجودين فلم ينكروا على كتاب السيرة مما يدل على إقرارهم لما كتبوه، والصحابة على علم دقيق وواسع بالسيرة لأنهم عاشوا أحداثها وشاركوا فيها، وكانت محبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم وتعلقهم به ورغبتهم في اتباعه وأخذهم بسنته في الأحكام سبباً في ذيوع أخبار السيرة ومذكراتهم فيها وحفظهم لها، فهي التطبيق العملي لتعاليم الإسلام. وقد اشتهر عدد من الصحابة باهتمامهم الكبير بموضوع السيرة منهم عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص والبراء بن عازب. وكذلك فإن التبكير في كتابة السيرة قلل إلى حد كبير من احتمال تعرضها للتحريف أو للمبالغة والتهويل أو للضياع. اهـ.
ثم إنه على حد زعم هذا الملحد وطعنه في مصداقية كتب السيرة بصفة عامة، وسيرة ابن إسحاق بصفة خاصة: لا يكون هناك معنى لأشعار أهل الجاهلية التي يريد أن يعرف منها رأيهم في شخص النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك لا يكون لصنيع ابن هشام أي أثر هو الآخر؛ إذ الكل مشكوك فيه ومحتمل للتدليس والكذب والتأليف!! على حد زعمه.
على أن هذه الأشعار المحذوفة؛ والتي تحمل طعنا وهجاء لا طائل تحته في شخص النبي صلى الله عليه وسلم: تعد هي نفسها حجة دامغة، وبرهانا ساطعا، على بطلان التهمة المنقولة في السؤال في حق ابن إسحاق ومحاباته ومداهنته بالكذب ونفاقه للخليفة العباسي أبي جعفر المنصور الذي أمره بكتابة السيرة!! ومع ذلك نتنزل ونقول: إن القرآن الكريم نفسه قد أثبت رأي أهل الجاهلية وطعنهم في شخص النبي صلى الله عليه وسلم واتهامه له بالجنون والسحر والكهانة والكذب وقول الشعر.
والله أعلم.