السؤال
نريد معرفة حكم من جحد أحاديث الآحاد. فهناك من خرجوا على الناس بهذه الشبهة، ويحتجون بأمرين:
الأول: أن القرآن ثبت كله بالتواتر، ولا تقبل روايات الآحاد فيه، وإن كانت صحيحة. والسنة لا تختلف عن القرآن من حيث إنها وحي من الله كالقرآن (وما ينطق عن الهوى). ثم يقولون: لماذا إذن تفرقون بين السنة والقرآن؟
الأمر الثاني: يحتجون بمذهب الأحناف في أنهم لم يقبلوا أحاديث الآحاد الصحيحة، إلا بشروط قاسية، ولم يقل بتكفيرهم أحد.
الرجاء الرد عليهم ردا وافيا شافيا؛ حتى لا يفتتن العامة بقولهم.
وجزاكم الله خيرا.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن والاه، أما بعد:
فبداية ننبه على أن إنكار خبر الواحد بالكلية، وإن كان قولا خاطئا مبتدعا، إلا إنه لا يطلق الحكم بالكفر على قائله، بخلاف إنكار السنة رأسا، حتى ما ثبت بالتواتر منها، فهذا قول كفري، والعياذ بالله، وراجع في ذلك هاتين الفتويين: 280663، 133516.
وأما بخصوص الشبهتين المذكورتين، فجواب الأولى منهما أن: التواتر شرط في ثبوت قرآنية اللفظ، ولكنه ليس شرطا في ثبوت حجته وصحة الاستدلال به، ولذلك فإن ما صح سنده من القراءات ولكنه لم يتواتر، فليس قرآنا بالإجماع، ومع ذلك فهو حجة في الأحكام عند جمهور العلماء، تشبيها له بخبر الواحد، وراجع في ذلك الفتويين: 50747، 201538. ثم إن القرآن هو الذي دلنا على قبول خبر الواحد الثقة إجمالا، وقد سبق لنا بيان حجية خبر الواحد وأدلته، وإجماع المعتبرين من علماء الأمة على ذلك سلفا وخلفا، وراجع في ذلك الفتاوى التالية أرقامها: 349570، 204400، 129610، 6906.
وأما الشبهة الثانية، فجوابها يعتمد على فهم مذهب الحنفية ومن وافقهم في العمل بخبر الواحد، والفرق بينهم وبين من يرد الآحاد بالكلية، وبيان ذلك أن الحنفية كغيرهم من فقهاء الأمة لا يردون حديث الآحاد بالجملة، ولكنهم أشد من غيرهم في اعتبار بعض شروط الصحة، ثم شروط القبول والاحتجاج، ولا سيما في المسائل التي تعم بها البلوى، وحين يخالف الراوي مرويه، أو حين يقوم التعارض بين الرواية وبين دلالة القرآن، أو السنة المتواترة أو المشهورة. وتفصيل ذلك يطول، والشاهد: أنهم لا يردون حديث الآحاد، وإنما يقدمون عليه عند التعارض ما هو أقوى منه عندهم.
قال الشيخ الدكتور محمد جميل مبارك في رسالته: (حجية خبر الآحاد في العقائد والأحكام) عند بيانه لأسباب نشأة ظاهرة التشكيك في خبر الآحاد، ومنها: دعوى معارضة القرآن الكريم، أو السنة المتواترة، أو الأصول.
قال: يجب بصدد الحديث عن هذا السبب أن نفرق بين مذهب مَنْ يرفض العمل بخبر الواحد أصلاً، ومذهب مَنْ يرفضه إذا عارضه ما هو أقوى منه، كما هو مذهب أبي حنيفة مثلاً، وكما نسب إلى الإمام مالك في تقديم ظاهر القرآن الكريم على خبر الواحد. وتجب ملاحظة هذه التفرقة حتى لا يظن بمثل أبي حنيفة أنه من الرافضين لحجية خبر الواحد، فهو -رحمه الله- إمام أهل الرأي، ويحتل القياس عنده مكانة بارزة في الاستدلال، ومع ذلك يقدم خبر الواحد على القياس، ومعه في هذا التقديم الإمامان محمد وأبو يوسف، وهذا من أقوى البراهين على حجية خبر الآحاد عندهم. غير أن المشكل -منهجياً- أن هناك ما يشبه خيطاً رابطاً بين اتجاه من يرفض حجية خبر الواحد جملة، واتجاه من يرفض حجيته إذا عارضه ما هو أقوى منه، من الكتاب أو السنة المتواترة أو المشهورة، وهو ما يدخل في ما يطلق عليه "تعارض الأخبار"
وقد ميَّز الإمام الشافعي بين الاتجاهين لما قال لمناظره: "قد أجد الناس مختلفين فيها (أي السنة) منهم من يقول بها، ومنهم من يقول بخلافها، فأما سنة يكونون مجتمعين على القول بخلافها، فلم أجدها قط" ...
وقد توسع الحنفية في ردِّ بعض أخبار الآحاد، لا لأن منهجهم هو ردُّ أخبار الآحاد، كما هو منهج المبتدعة، لكن لاعتبارات علمية ومنهجية لم يسلمها لهم غيرهم، فمتأخرو الحنفية ردوا خبر الواحد إذا كان في ما تعم به البلوى، كما ردوه إذا ورد مخالفا للأصول ... وبالرغم من وجود هذا الشبه الظاهري في ظاهرة الرفض، فإن علماء الحنفية وغيرهم ممن ردوا بعض أخبار الآحاد، يختلفون منهجا واعتقادا مع الرافضين لمبدأ الحجية نفسها. اهـ.
والله تعالى أعلم.