الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن الجمع للمسافر رخصة عند أكثر أهل العلم، خلافاً للحنفية، ومن وافقهم، القائلين بمنعه، وقد صح في ذلك أحاديث كثيرة، منها:
حديث أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخّر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما، وإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل، صلى الظهر ثم ركب. متفق عليه.
ومنها: حديث ابن عمر في الصحيحين، واللفظ لمسلم: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عَجِل به السير جمع بين المغرب والعشاء.
وفي رواية للبخاري عن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: كنت مع عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- بطريق مكة، فبلغه عن صفية بنت أبي عبيد شدة وجع، فأسرع السير حتى كان بعد غروب الشفق نزل، فصلى المغرب والعتمة، جمع بينهما، ثم قال: إني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا جدّ به السير أخر المغرب وجمع بينهما.
وقد اختلف أهل العلم: هل الجمع للمسافر أفضل أم تركه؟ وجمهور الفقهاء على أن تركه أفضل، إلا في عرفة ومزدلفة، على القول بأن جمع الحاج فيهما هو لأجل السفر، لا لأجل النسك، قال النووي ـ رحمه الله ـ في المجموع: قال الغزالي في البسيط، والمتولي في التتمة، وغيرهما: الأفضل ترك الجمع بين الصلاتين، ويصلي كل صلاة في وقتها. قال الغزالي: لا خلاف -أي: بين أئمة الشافعية- أن ترك الجمع أفضل، بخلاف القصر، قال: والمتبع في الفضيلة الخروج من الخلاف في المسألتين، يعني خلاف أبي حنيفة، وغيره ممن أوجب القصر، وأبطل الجمع، وقال المتولي: ترك الجمع أفضل؛ لأن فيه إخلاء وقت العبادة من العبادة. اهـ.
وفي منتهى الإرادات لابن النجار مع شرح العلامة البَهوتي الحنبلي: (وتركه) أي: الجمعِ (أفضل) من فعله، خروجًا من الخلاف (غير جمعي عرفة ومزدلفة) فيسن بشرطه أن يجمع بين الظهر والعصر تقديمًا، وفي مزدلفة بين المغرب والعشاء تأخيرًا، أما مكي ومن نوى إقامة بمكة فوق أربعة أيام، فلا يجمع بهما؛ لأنه ليس بمسافر سفر قصر. اهـ.
أما الحنفية فتركه أفضل عندهم قطعًا؛ لأنهم لا يجوزونه للسفر أصلًا، ويقتصرون على القصر.
وأما المالكية فقد جوزوه عند جد السير، وخوف فوات أمر، كما في حديث ابن عمر المار، وهو رواية عن الإمام أحمد؛ وذلك لمشقة التوقف، والنزول لكل صلاة؛ ولهذا جوزه المالكية للمسافر برًّا، دون المسافر بحرًا، ونحوه، الذي يسير به المركب، ونحوه، قال ابن عسكر المالكي في إرشاد السالك: ويجوز الجمع بين الظهرين لجد السير لا لمجرد الترخص.اهـ . وقالوا: لا يجمع المسافر في البحر؛ لأنا إنما نبيح للمسافر في البر الجمع من أجل جد السير، وخوف فوات أمر، وهذا غير موجود في المسافر بالريح في البحر، نقله خليل بن إسحاق في التوضيح.
وما ورد من أحاديث جمع النبي صلى الله عليه وسلم في السفر فمحمولٌ ـ عند من جوّز الجمع ـ على الحاجة للاشتغال بالسير، ونحوه في وقت إحداهما، سواء قيل: ذلك شرط جوازٍ، أم قيل: شرط أفضلية؛ ولذلك جمع الظهرين في وقت الأولى في نمرة لاشتغال الناس بعد ذلك في وقت العصر بالدعاء في عرفة، ثم جمع العشاءين بعد خروجه من عرفة بمزدلفة جمع تأخير؛ لاشتغاله في وقت المغرب بالإفاضة من عرفات إلى المزدلفة، بينما لم يجمع الصلاتين في أيام منى: التروية، والتشريق، بل قصر فيها الرباعية، وصلى كل صلاة في وقتها، أي: قصرًا بلا جمع؛ لأنه لم توجد الحاجة الداعية إلى الجمع، كالاشتغال بما ذُكر، وهذا بناءً على القول بأن الجمع والقصر في عرفة، ومزدلفة هو لأجل السفر، وهو الراجح، وبه قال جماهير العلماء؛ لما روى الطيالسي، والبيهقي، عن عمران بن حصين: حججتُ معه ـ صلى الله عليه وسلم ـ واعتمرتُ، فصلى ركعتين، ثم قال: يا أهل مكة، أتموا الصلاة فإنا قومٌ سَفْرٌ. ثم حججتُ مع أبي بكر، واعتمرتُ، فصلى ركعتين ثم قال: يا أهل مكة، أتموا فإنا قومٌ سَفْرٌ.، ثم حججت مع عمر واعتمرت، فصلى ركعتين ثم قال: أتموا الصلاة، فإنا قومٌ سَفْرٌ. وأصله عند الترمذي، وقال: حسن صحيح.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في القواعد النورانية: ففقهاء الحديث ـ كأحمد، وغيره ـ متبعون لعامة الحديث الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه في هذا الباب، فيجوزون في صلاة الخوف جميع الأنواع المحفوظة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويختارون قصر الصلاة في السفر؛ اتباعًا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يصلِّ في السفر قطُّ رباعيةً إلا مقصورة، ومن صلى أربعًا لم يبطلوا صلاته؛ لأن الصحابة أقروا من فعل ذلك، بل منهم من يكره ذلك، ومنهم من لا يكرهه، وإن رأى تركه أفضل، وفي ذلك عن أحمد روايتان.
وهذا بخلاف الجمع بين الصلاتين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا لم يفعله إلا مراتٍ قليلةً، فإنهم يستحبون تركه إلا عند الحاجة إليه؛ اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم حين جد به السير، حتى اختُلف عن أحمد: هل يجوز الجمع للمسافر النازل الذي ليس بسائرٍ أم لا؟ ولهذا كان أهل السنة مجمعين على جواز القصر، مختلفين في جواز الإتمام، ومجمعين على جواز التفريق بين الصلاتين، مختلفين في جواز الجمع بينهما. اهـ.
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الجمع في السفر أفضل من تركه؛ لأنه رخصةٌ من الله، والله يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته، كما في مسند أحمد من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معاصيه. وفي رواية عند الطبراني، وابن حبان: كما يحب أن تؤتى عزائمه. وعزائمه: فرائضه، كما روي عن عائشة مرفوعًا وموقوفًا.
وقد بوَّب عليه ابن حبان بقوله: ذكر استحباب قبول رخصة الله؛ إذ الله جل وعلا يحب قبولها.
وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة: الأخذ بالرخصة في الدين إن كان المقصود بها الرخصة الشرعية التي شرعها الله، ورسوله صلى الله عليه وسلم، كالرخصة للمسافر الصائم أن يفطر وقت سفره، وأن يقصر المسافر الصلاة الرباعية إلى ركعتين، وأن يجمع بين صلاة الظهر والعصر، أو بين صلاة المغرب والعشاء في وقت إحداهما جمع تقديم، أو تأخير أثناء سفره، وكالرخصة في المسح على الخفين، ونحو ذلك، فإن الأخذ بهذه الرخصة الشرعية في حق هؤلاء أفضل. وإن لم يأخذ بها، بل صام أثناء سفره، ولم يقصر الصلاة، ولم يجمع بين الصلوات المذكورة، ولم يمسح على الخفين، بل خلعهما، وغسل الرجلين، فلا حرج، ولا إثم عليه، لكنه ترك الأفضل، والأولى. ويدل لذلك ما رواه ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تبارك وتعالى يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته» ـ رواه الإمام أحمد، والبزار، والطبراني في الأوسط، وفي رواية لابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، رواه الطبراني في الكبير، والبزار، ورجاله ثقات». اهـ.
والراجح المفتى به هو ما عليه جماهير العلماء من استحباب ترك الجمع للمسافر غير المشتغل بما يحتاج معه إلى الجمع، كالسير في السفر، والحاجة إلى إدراك أمرٍ ما، وغير ذلك مما لا مشقة معه في ترك الجمع، والاقتصار على القصر.
وعليه؛ فليس الجمع في السفر عندهم سنةً مؤكدةً؛ لأنه ليس سنةٌ مؤكدةٌ يكون تركها أفضل.
ومما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كثيرًا ما يترك الجمع بين الصلاتين حديث ابن عمر عند أبي داود: ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء قط في السفر إلا مرة.
قال أبو داود: وهذا يُروى عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، موقوفًا على ابن عمر، أنه لم ير ابن عمر، جمع بينهما قط إلا تلك الليلة، يعني ليلةَ استُصرِخ على صفية، وروي من حديث مكحول، عن نافع، أنه رأى ابن عمر، فعل ذلك مرة، أو مرتين. اهـ.
وسواء صح الرفع، أم الوقف، فإن ابن عمر كان من أشد الناس متابعةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إنه كان يتبعه في العادات، ومواضع نزوله في سفره، فضلاً عن العبادات، هذا مع كونه كثير السفر مع النبي صلى الله عليه وسلم، حتى قالت عنه عائشة: يرحم الله أبا عبد الرحمن، ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا وهو معه. متفق عليه، فهذا يدل على أن ابن عمر رأى النبي صلى الله عليه وسلم يترك الجمع كثيرًا في سفره، وإن كان الصواب أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ جمع أكثر من مرتين، بل صلاها مرارًا، كما يدل عليه حديث أنسٍ المار، فإنه يدل على تكرار ذلك بحسب تكرار الحاجة، وكذا حديث ابن عباس: جمع بين الصلاة في سفرة سافرها في غزوة تبوك، فجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء. رواه مسلم. وقد رواه أيضًا معاذ بن جبل قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل، جمع بين الظهر والعصر، وإن يرتحل قبل أن تزيغ الشمس، أخر الظهر، حتى ينزل للعصر، وفي المغرب مثل ذلك، إن غابت الشمس قبل أن يرتحل، جمع بين المغرب والعشاء، وإن يرتحل قبل أن تغيب الشمس، أخر المغرب حتى ينزل للعشاء ثم جمع بينهما. رواه أبو داود، وغيره بإسناد صحيح، وهذا يدل على التكرار، والمثبِتُ مقدَّمٌ على النافي؛ لأن معه زيادة علمٍ، والنافي إنما عدَّ مراتِ ما رأى، كأن ابن عمر قال: ما رأيته يفعل ذلك إلا مرةً، أو مرتين. وقد رآه غيره في عدةِ مواضع أثبتوها، رغم كثرة سفر ابن عمر معه صلى الله عليه وسلم على ما بيَّـنَّا، فيكون الجمع بين الروايات بأن جمعه صلى الله عليه وسلم في السفر كان قليلًا، وفي حالاتٍ معينة مر بيانها، لم يشهد ابن عمر منها إلا مرةً، على رواية الرفع، أو شهد عدم جمعه صلى الله عليه وسلم أكثر من جمعه، فلم يجمع ابن عمر بعد ذلك إلا مرةً، أو مرتين؛ اتباعًا للأكثر من حال النبي صلى الله عليه وسلم، على رواية الوقف.
ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية فيما مر: لمَّا لم يفعله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا مراتٍ قليلةً، فإنهم ـ يعني فقهاء الحديث ـ يستحبون تركه إلا عند الحاجة إليه؛ اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم- حين جَدَّ به السير. اهـ.
والله أعلم.