السؤال
تعرضت للشبهات رغم صغر عمري -13 سنة- وتكلمت مع ملحدين، وأسكتُّ معظمهم، وبعضهم تهربوا، ودحضت جميع شبهاتهم، وبعد فترة بعد قراءة القرآن مثلًا، أو مطالعة بحث علمي أخلق لنفسي شبهة، وأزعج نفسي بها لبقية اليوم، أو إلى الوقت الذي أجد فيه الجواب الشافي. وهذه الشبهة أزعجتني جدًّا؛ فأتمنى أن تقولوا لي: إن جوابي عن الشبهة صحيح، وتريحوني.
القرآن فيه سبع أو عشر قراءات مختلفة، وفيهن اختلافات بسيطة في الرسم؛ مثال: سورة الحديد الآية 24 في قراءة ورش: (فإن الله الغني الحميد)، وفي قراءة حفص: (فإن الله هو الغني الحميد)، فهذه شبهة أزعجتني لفترة كبيرة، ولكن فسرتها كما يلي:
القرآن نزل على سبعة أحرف لتراعي جميع القبائل، وتسهل الأمر عليها، فبعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وقيام أبي بكر، وعمر، وعثمان بالأمر بجمع القرآن بإشراف زيد بن ثابت، قاموا بجمع القرآن في مصحف واحد بخليط من كل الحروف، ولكن إذا وجد أن حرفًا يخالف حرفًا بالرسم، وكلا الحرفين متواتران عن النبي صلى الله عليه وسلم، قاموا بكتابة الحرفين في مصاحف مختلفة؛ لكي يُضمَن أن أكبر عدد من الحروف سيصل إلى الناس، وما اختلفوا فيه من حروف كتبوه بالحرف القرشي، فهل هذا صحيح أم خطأ؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن المسلم يتعين عليه أن يحافظ على دينه، وسلامة قلبه، مما يوقعه في أمراض الشبهات، والشكوك التي تؤدي به للزيغ، كما يحافظ على بدنه من الأمراض المعدية، ولا يجوز للمسلم الذي لم يتسلح بالعلم الشرعي أن يدخل في الجدال مع الملاحدة؛ لئلا تنطلي عليه شبهات، وأوهام أهل الضلال؛ فإن شبهاتهم، وإن كانت أوهى من بيت العنكبوت، إلا أنها قد تنطلي على ضعيف الإيمان، وقليل العلم؛ ولذلك فإن السلف -رحمهم الله تعالى- كانوا يحذرون أشد التحذير من صحبة أهل الأهواء، ومجالستهم، فكانوا يجتنبونهم، ويؤثرون السلامة في دينهم على مجالستهم.
ويجب على المسلم أن يفرغ وقته في طلب العلم الشرعي، حتى يتعلم ما يقوي إيمانه، ويثبت يقينه؛ فكل عبد يجب عليه اليقين بصحة الإسلام، وبما تدل عليه كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدل لوجوب اليقين بذلك قول الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ {الحجرات: 15}، وقال في شأن المنافقين: وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ {التوبة: 45}، وراجع الفتوى رقم: 71907.
وأما الجواب عن ما استشكلته: فيتضح من كلام الشيخ عبد الله بن يوسف العنزي في كتاب (المقدمات الأساسية في علوم القرآن)؛ حيث قال: المصاحف العثمانيّة قد اختلفت في رسمها في شيء قليل، وكلّه كلام الله تعالى، كقوله عزّ وجلّ: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ {الحديد: 24} هكذا في مصاحف مكّة، والبصرة، والكوفة، وبه قرأ جميع السّبعة غير نافع، وابن عامر؛ فهذان قرآ على ما في مصاحف المدينة، والشّام، وذلك بغير "هُوَ"، وكقوله: وَلا يَخافُ عُقْباها {الشّمس: 15} و: فلا يخاف عقباها. قال الإمام أبو عبيد: هذه الحروف الّتي اختلفت في مصاحف الأمصار كلّها منسوخة من الإمام الّذي كتبه عثمان -رضي الله عنه- ثمّ بعث إلى كلّ أفق ممّا نسخ بمصحف، ومع هذا؛ إنّها لم تختلف في كلمة تامّة، ولا في شطرها، إنّما كان اختلافها في الحرف الواحد من حروف المعجم، كالواو، والفاء، والألف، وما أشبه ذلك، إلّا الحرف الّذي في الحديد وحده، قوله: فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ - فإنّ أهل العراق زادوا على ذينك المصرين -يعني: المدينة، والشّام- هو؛ فليس لأحد إنكار شيء منها، ولا جحده، وهي كلّها عندنا كلام الله، وجائز أن يكون الوجه في اختلاف الرّسم لهذه الحروف هو: أنّه حين كتبت أصولها جميعًا بإشراف أمير المؤمنين عثمان، من قبل أمناء الوحي زيد بن ثابت، وإخوانه، رأوا إمكان تضمين تلك المصاحف بعض الحروف المسموعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ممّا تعذر عليهم رسمه جميعًا في مصحف واحد، ففرّقت فيها لتبقى محفوظة على الأمّة، كبعض صور اختلاف الأحرف السّبعة الّتي نزل عليها القرآن. اهـ.
وقال الشيخ محمد طاهر الكردي في كتاب (تاريخ القرآن الكريم) تحت عنوان: سبب اختلاف رسوم المصاحف العثمانية: لا ندري لم اختلفت رسوم تلك المصاحف التي كتبت بأمر عثمان -رضي الله عنه-، وأرسلت إلى المدن، والأمصار، وقد أجاب على هذا العلامة الشيخ/ محمد حسنين مخلوف العدوي وكيل الجامع الأزهر والمعاهد الدينية بمصر المتوفى عام 1351 تقريبًا -رحمه الله تعالى- في كتابه (عنوان البيان في علوم التبيان) بقوله: إن هذا الاختلاف بين تلك المصاحف إنما هو اختلاف قراءات في لغة واحدة، لا اختلاف لغات، قصد بإثباته إنفاذ ما وقع الإجماع عليه إلى أقطار بلاد المسلمين، واشتهاره بينهم، وإنما كتبت هذه في البعض بصورة، وفي آخر بأخرى؛ لأنها لو كررت في كل مصحف لتوهم نزولها كذلك، ولو كتبت بصورة في الأصل، وبأخرى في الحاشية لكان تحكمًا مع إيهام التصحيح، ومثل هذا بعد أمر عثمان -رضي الله عنه- وبعثه إلى كل جهة ما أجمع الصحابة على الأخذ به لا يؤدي إلى تنازع، أو فتنة؛ لأن أهل كل جهة قد استندوا إلى أصل مجمع عليه، وإمام يرشدهم إلى كيفية قراءته.
والحاصل: أن المصاحف العثمانية كتبت بحرف واحد، وهو حرف قريش، وأن ذلك الحرف يسع من القراءات ما يرسم بصور مختلفة إثباتًا، وحذفًا، وإبدالًا، فكتب في بعضها برواية، وفي بعضها برواية أخرى؛ تقليلًا للاختلاف في الجهة الواحدة بقدر الإمكان، فكما اقتصر على لغة واحدة في جميع المصاحف، اقتصر على رسم رواية واحدة في كل مصحف، والمدار في القراءة على عدم الخروج عن رسم تلك المصاحف، ولذلك لا يحظر على أهل أي جهة أن يقرؤوا بما يقتضيه رسم الجهة الأخرى. اهـ. كلامه -رحمه الله تعالى-.
وللفائدة يرجى مراجعة هذه الفتاوى: 5963، 46166، 142771.
والله أعلم.