السؤال
منذ خمس سنوات أحرمت أنا وزوجتي من مصر للعمرة، وفي مطار جدة لم نستطع الذهاب إلى مكة لأداء العمرة؛ وذلك لشدة الزحام في المطار، وطول المدة التي قضيناها لإنهاء إجراءات الوصول؛ مما أشعرنا بالإجهاد الشديد، وعدم المقدرة على السفر لمكة، فما الحكم في ذلك؟ علمًا أننا أدينا العمرة بعد ذلك ما يقرب من عشر مرات، وجزاكم الله خيرًا.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فلا يجوز لأحد رفض الإحرام بعد أن شرع فيه، ولا يصح، سواء أكان إحرامًا بحج أم بعمرة، فريضةً أم نفلاً، بل يبقى محرمًا إلى أن يأتي بأعمال النسك الذي أحرم به، ويتحلل، وقد قال الله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ {البقرة:196}، أي: أتموهما بعد أن أحرمتم بهما، أو بأحدهما. قال ابن كثير: فأمر بإتمام الحج والعمرة، وظاهر السياق إكمال أفعالهما بعد الشروع فيهما؛ ولهذا قال بعده: {فإن أحصرتم} أي: صددتم عن الوصول إلى البيت، ومنعتم من إتمامهما؛ ولهذا اتفق العلماء على أن الشروع في الحج والعمرة ملزم، سواء قيل بوجوب العمرة، أو باستحبابها. اهـ.
وليست هذه المشقة التي ذكرتها من أسباب التحلل، ما لم تشترطا عند إحرامكما التحلل بها.
وحيث إنكما أديتما العمرة بعد ذلك، فقد تأدَّت أعمال عمرتك الأولى بما فعلته من أعمال الثانية، وإحرامك الثاني لم ينعقد، فكان لغوًا، قال الروياني الشافعي في بحر المذهب: إذا أحرم بحجتين، أو بعمرتين، أو بواحدة منهما، ثم أَدخَلَ الأخرى عليها، فلا ينعقد إحرامه إلا لواحدة، ولا تنعقد الأخرى، ولا يجب قضاؤها، ولا دم عليه، وبه قال مالك، وأحمد. اهـ.
وأما ما فعلتماه من محظورات الإحرام قبل عمرتكما الثانية: فما كان منه من قبيل الإتلاف، كحلق الشعر، أو قصه، أو قلم الأظفار، فعليكم في كل جنسٍ من ذلك فدية، فلو حلقتما مراتٍ، وقلمتما مراتٍ، كانت عليكم فديتان: فدية عن إزالة الشعر، وفدية عن إزالة الأظفار، لتداخل فدية كل فعلٍ في فدية جنسه، قال البهوتي في شرح منتهى الإرادات: (ويكفّر) وجوبًا (من حلق) ناسيًا، أو جاهلًا، أو مكرهًا (أو قلم) أظفاره كذلك.
وقال: (ومن كرر محظورًا في إحرامه) من جنسٍ غير قتل صيد (بأن حلق) شعرًا وأعاده -أي: أعاد الحلق- (أو قَلَمَ) أظفاره وأعاده -أي: القلْم- ... (قبل التكفير) عن أول مرة في الكل (فـ) عليه كفارة (واحدة) ... (و) إن كان المحظور (من أجناسٍ) بأن حلق، وقلم ظفره، وتطيب، ولبس مخيطًا؛ (فـ) عليه (لكل جنس فداء) تفرقت، أو اجتمعت؛ لأنها محظورات مختلفة الأجناس، فلم تتداخل أجزاؤها، كالحدود المختلفة، وعكسه إذا كانت من جنس واحد. اهـ.
وأما ما كان من باب الترفه: كلبس المخيط، ودهن الرأس، والتطيب، وتغطية الرجل رأسه، فلا كفارة فيه للجهل، قال النووي في المجموع: إذا لبس أو تطيب ناسيًا لإحرامه، أو جاهلًا تحريمه فلا فدية. اهـ.
وقال البهوتي في شرح منتهى الإرادات: و(لا) يكفِّر (من لبس) ناسيًا، أو جاهلًا، أو مكرهًا (أو تطيب) في حال من ذلك (أو غطى رأسه في حال من ذلك)؛ لحديث «عفي لأمتي عن الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه»، ولأنه يقدر على رد هذه بالإزالة بخلاف الأول؛ لأنها إتلاف. اهـ.
وفدية كلٍّ من الحلق، والقلْم، أنتما مخيران فيها بين ذبح شاةٍ في الحرم، أو إطعام ستة مساكين من مساكين الحرم، كل مسكين نصف صاعٍ من برّ، ونحوه، أو صيام ثلاثة أيام في أي مكان، كما قال تعالى: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ {البقرة:196}، وفي الصحيحين من حديث كعب بن عجرة: فَاحْلِقْ، وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، أَوْ انْسُكْ نَسِيكَةً. وفي رواية عند البخاري: لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْف صَاعٍ.
وأما الجماع، ومقدماته: فلا فدية فيه على الناسي، والجاهل، ولا تفسد بهذا الجماع العمرة والحج، وإن تكرر، وهو مذهب الشافعية، ورواية عن الإمام أحمد، وهو المفتى به؛ لأن الواطئ معذور بجهله ما يخفى على مثله، قال النووي في المجموع: إذا جامع المحرم قبل التحلل من العمرة، أو قبل التحلل الأول من الحج ناسيًا لإحرامه، أو جاهلًا تحريمَه ... ففيه قولان مشهوران ... (الأصح) الجديد: لا يفسد نسكه، ولا كفارةَ. اهـ.
وأما بقية العُمَر: فتنعقد صحيحة بعد أن تحللتما من الأولى بأفعال الثانية.
والله أعلم.