السؤال
ما حكم من يقول ويشدد بجواز الترحم والاستغفار للكافر الميت متحججا بأن الله غفور رحيم، وأن رحمته وسعت كل شيء، وبكون الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل رحمة للعالمين، وليس رحمة للمسلمين؟.
ما حكم من يقول ويشدد بجواز الترحم والاستغفار للكافر الميت متحججا بأن الله غفور رحيم، وأن رحمته وسعت كل شيء، وبكون الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل رحمة للعالمين، وليس رحمة للمسلمين؟.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن المنع من الاستغفار للميت الكافر مسألة قطعية في الشرع، والنصوص فيها صريحة، والإجماع منعقد عليها، وليست المسألة من موارد الاجتهاد، فقد قال تعالى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ {التوبة:113}.
وفي صحيحي البخاري ومسلم: عن ابن شهاب قال: أخبرني سعيد بن المسيب، عن أبيه، قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده أبا جهل، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أشهد لك بها عند الله، فقال أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه، ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فأنزل الله عز وجل: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم {التوبة: 113} وأنزل الله تعالى في أبي طالب، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين.
وفي مسند الإمام أحمد عن علي، قال: سمعت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان، فقلت: أيستغفر الرجل لأبويه وهما مشركان؟ فقال: أولم يستغفر إبراهيم لأبيه؟ فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين {التوبة: 113} إلى قوله: تبرأ منه {التوبة: 114} قال: لما مات. حسنه الأرنؤوط.
والرسول صلى الله عليه وسلم لم يؤذن له في الاستغفار لأقرب الناس إليه، ففي صحيح مسلم: عن أبي هريرة، قال: زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله، فقال: استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت.
وفي صحيح ابن حبان عن ابن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوما, فخرجنا معه، حتى انتهينا إلى المقابر، فأمرنا فجلسنا، ثم تخطى القبور حتى انتهى إلى قبر منها فجلس إليه، فناجاه طويلا، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم باكيا، فبكينا لبكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أقبل علينا، فتلقاه عمر ـ رضوان الله عليه ـ وقال: ما الذي أبكاك يا رسول الله, فقد أبكيتنا وأفزعتنا؟ فأخذ بيد عمر، ثم أقبل علينا، فقال: أفزعكم بكائي؟ قلنا: نعم, فقال: إن القبر الذي رأيتموني أناجي قبر آمنة بنت وهب، وإني سألت ربي الاستغفار لها، فلم يأذن لي، فنزل علي: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين {التوبة: 113} فأخذني ما يأخذ الولد للوالد من الرقة، فذلك الذي أبكاني، ألا وإني كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، فإنها تزهد في الدنيا وترغب في الآخرة. ضعفه الألباني.
وحكي الإجماع على حرمة الاستغفار للكافر، قال النووي في المجموع: وَأَمَّا الصَّلاةُ عَلَى الْكَافِرِ وَالدُّعَاءُ لَهُ بِالْمَغْفِرَةِ فَحَرَامٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالإِجْمَاعِ. اهـ.
بل ذهب بعض العلماء إلى أن طلب المغفرة للكافر كفر، قال القرافي: اعلم أن الدعاء الذي هو الطلب من الله تعالى له حكم باعتبار ذاته، من حيث هو طلب من الله تعالى، وهو الندب، لاشتمال ذاته على خضوع العبد لربه وإظهار ذلته وافتقاره إلى مولاه، فهذا ونحوه مأمور به، وقد يعرض له من متعلقاته ما يوجبه أو يحرمه، والتحريم قد ينتهي للكفر وقد لا ينتهي، فالذي ينتهي للكفر أربعة أقسام:
القسم الأول: أن يطلب الداعي نفي ما دل السمع القاطع من الكتاب والسنة على ثبوته وله أمثلة:
الأول: أن يقول: اللهم لا تعذب من كفر بك أو اغفر له، وقد دلت القواطع السمعية على تعذيب كل واحد ممن مات كافرا بالله تعالى، لقوله تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به {النساء: 48} وغير ذلك من النصوص، فيكون ذلك كفرا، لأنه طلب لتكذيب الله تعالى فيما أخبر به، وطلب ذلك كفر، فهذا الدعاء كفر. اهـ.
وأما عن المراد بقوله تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ {الأعراف:156}.
فالرحمة التي وسعت كل شيء إنما هي في الدنيا، وأما في الأخرة: فالرحمة للمؤمنين فحسب، كما سبق في الفتوى رقم: 230395.
وأما عما يتعلق بمعنى قول تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ {الأنبياء:107}.
فقال فيه ابن القيم: وأصح القولين في قوله تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين {الأنبياء 107} أنه على عمومه وفيه على هذا التقدير وجهان:
أحدهما: أن عموم العالمين حصل لهم النفع برسالته، أما أتباعه: فنالوا به كرامة الدنيا والآخرة، وأما أعداؤه فالمحاربون له عجل قتلهم وموتهم خير لهم من حياتهم، لأن حياتهم زيادة لهم في تغليظ العذاب عليهم في الدار الآخرة، وهم قد كتب عليهم الشقاء، فتعجيل موتهم خير لهم من طول أعمارهم في الكفر، وأما المعاهدون له: فعاشوا في الدنيا تحت ظله وعهده وذمته، وهم أقل شرا بذلك العهد من المحاربين له، وأما المنافقون: فحصل لهم بإظهار الإيمان به حقن دمائهم وأموالهم وأهلهم واحترامها وجريان أحكام المسلمين عليهم في التوارث وغيره، وأما الأمم النائية عنه: فإن الله سبحانه رفع برسالته العذاب العام عن أهل الأرض فأصاب كل العالمين النفع برسالته.
الوجه الثاني: أنه رحمة لكل أحد، لكن المؤمنون قبلوا هذه الرحمة فانتفعوا بها دنيا وأخرى، والكفار ردوها فلم يخرج بذلك عن أن يكون رحمة لهم، لكن لم يقبلوها، كما يقال هذا دواء لهذا المرض، فإذا لم يستعمله المريض لم يخرج عن أن يكون دواء لذلك المرض. اهـ.
وراجعي للفائدة الفتويين رقم: 200527، ورقم: 240895.
والله أعلم.
يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني