السؤال
نعلم بالنص القرآني أن الجروح قصاص، فماذا عن الجروح النفسية؟ وإذا آذانا شخص نفسيًا فهل لنا الحق في الرد عليه بنفس الشكل ـ أي: بمثل ما اعتدى علينا-؟ وما حدود أو علامات الاعتداء أو الجرح النفسي حتى يعلم المرء أنه آذى أخًا له فيعتدر منه؟
نعلم بالنص القرآني أن الجروح قصاص، فماذا عن الجروح النفسية؟ وإذا آذانا شخص نفسيًا فهل لنا الحق في الرد عليه بنفس الشكل ـ أي: بمثل ما اعتدى علينا-؟ وما حدود أو علامات الاعتداء أو الجرح النفسي حتى يعلم المرء أنه آذى أخًا له فيعتدر منه؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالقصاص إنما يشرع حين إمكان حصول العدل، أو المثلية في التعدي، فإذا لم يمكن تحقيق ذلك، لم يشرع القصاص، قال ابن قدامة في المغني: يشترط لوجوب القصاص في الجروح ثلاثة أشياء: ... الثالث: إمكان الاستيفاء من غير حيف، ولا زيادة؛ لأن الله تعالى قال: وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به {النحل: 126} وقال: فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم {البقرة: 194} ولأن دم الجاني معصوم إلا في قدر جنايته، فما زاد عليها يبقى على العصمة، فيحرم استيفاؤه بعد الجناية، كتحريمه قبلها، ومن ضرورة المنع من الزيادة المنع من القصاص؛ لأنها من لوازمه، فلا يمكن المنع منها إلا بالمنع منه، وهذا لا خلاف فيه نعلمه. اهـ.
ولذلك، فإن القصاص في الأطراف، كاليد، والرجل يشترط فيه أن يكون القطع من مفصل؛ لإمكان الاستيفاء عندئذ من غير حيف، قال ابن قدامة: فإن كان من غير مفصل، فلا قصاص فيه من موضع القطع، بغير خلاف نعلمه. اهـ.
ولذلك أيضًا، فإن الجناية بنحو الضربة، أو اللطمة التي لا تحدث جرحًا، أو تذهب منفعة عضو، لا قصاص فيها عند جمهور الفقهاء؛ لعدم إمكانية المماثلة، جاء في الموسوعة الفقهية: يرى جمهور الفقهاء أنه لا قصاص من لطمة على الخد إذا لم ينشأ عنها جرح، ولا ذهاب منفعة، بل فيها التعزير؛ لأن المماثلة فيها غير ممكنة... اهـ.
ثم إن من شروط القصاص أن يكون الفعل عمدًا لا خطأً، وأن يكون عدوانًا لا لعبًا ولا أدبًا! جاء في الموسوعة الفقهية: يشترط للقصاص فيما دون النفس شروط هي: أن يكون الفعل عمدًا، وأن يكون الفعل عدوانًا، والتكافؤ في الدين، والتكافؤ في العدد، والمماثلة في المحل، والمماثلة في المنفعة، وإمكان الاستيفاء من غير حيف. اهـ.
فإن كان هذا في الأذية والجروح البدنية الظاهرة، فما بالنا بما سمته السائلة جروحًا نفسية؟!
وأما حدود وعلامات الاعتداء النفسي: فلا نعلم فيه أجمع من النهي عن أذية المؤمن بغير ما اكتسب، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا {الأحزاب: 58}.
قال السيوطي في الإكليل في استنباط التنزيل: فيه تحريم أذى المؤمن إلا بوجه شرعي، كالمعاقبة على ذنب، ويدخل في هذه الآية كل ما يؤدي للإيذاء، كالبيع على بيع غيره، والسوم على سومه، والخطبة على خطبته، وقد نص الشافعي على تحريم أكل الإنسان مما يلي غيره إذا اشتمل على إيذاء. اهـ.
وقال القرطبي في تفسيره: أذية المؤمنين والمؤمنات هي أيضًا بالأفعال والأقوال القبيحة، كالبهتان، والتكذيب الفاحش المختلق... وقد قيل: إن من الأذية تعييره بحسب مذموم، أو حرفة مذمومة، أو شيء يثقل عليه إذا سمعه؛ لأن أذاه في الجملة حرام. اهـ.
ومما يجمل التذكير به هنا من الأصول الجامعة التي تُبعِد من عمل بها عن أذية المؤمن، قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه. متفق عليه.
وقوله صلى الله عليه وسلم لابن المنتفق: ما تحب أن يفعله بك الناس فافعله بهم، وما تكره أن يأتي إليك الناس فذر الناس منه. رواه أحمد، وصححه الألباني.
وقوله صلى الله عليه وسلم: من أحب أن يزحزح عن النار، ويدخل الجنة، فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه. رواه مسلم.
قال النووي: هذا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وبديع حكمه، وهذه قاعدة مهمة، فينبغي الاعتناء بها، وإن الإنسان يلزم أن لا يفعل مع الناس إلا ما يحب أن يفعلوه معه. اهـ.
والله أعلم.
يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني