الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

شبهة تقدم الزنادقة وغير المسلمين في العلوم الدنيوية والتطبيقية في حضارتنا

السؤال

عندما أبحث في الإنترنت عن علماء الحضارة الإسلامية في العلوم الدنيوية والتطبيقية أجدهم إما ملحدين أو زنادقه أو سحرة كيميائين، فهل الإسلام بيئة طاردة للعلماء؟ وهل كان هناك علماء لم يذكروا بفساد العقيدة؟ فأغلب من أعرفهم ذكروا بها، وقد قرأت في أحد المواقع أن الحضارة الإسلامية ما هي إلا كذبة كبيرة وأن الدولة العباسية تقدمت بسبب بعدها عن الإسلام في كثير من المجالات كالطب، فهل يعقل أن كل الأطباء كانوا بعيدين عن الإسلام؟ أزيلوا عنا هذه الشبهة، وجزاكم الله خيرا.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فلا يخفى على عارف بالإسلام مكانة العلم فيه، وأن مفهومه يسع النافع من العلوم التي وصفها السائل بالدنيوية والتطبيقية فهي من فروض الكفايات على مجموع الأمة! وذلك أن الإسلام جاء لعمارة الدنيا والآخرة معا، وقد سبق لنا بيان ذلك في عدة فتاوى، منها الفتاوى التالية أرقامها: 170477، 31948، 148375، 122837، 188951.

فإذا قصر المسلمون في الواجب عليهم كان هذا من النقص والعيب الذي يلامون عليه، ولكن الإسلام نفسه بريء من هذا النقص بعد أن كلفهم بتكميله وأمرهم تحصيل الواجب عليهم منه، وهذا مما نعاه أئمة الإسلام من قديم، فهذا الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ ينقل عنه تلميذه حرملة ـ كما ذكر الذهبي في ترجمته من سير أعلام النبلاء ـ أنه كان يتلهف على ما ضيع المسلمون من الطب ويقول: ضيعوا ثلث العلم ووكلوه إلى اليهود والنصارى!!.

ونقل عنه الذهبي أنه قال: لا أعلم علما بعد الحلال والحرام أنبل من الطب، إلا أن أهل الكتاب قد غلبونا عليه.

وهذا وإن كان قصورا أو تقصيرا من المسلمين، إلا إنه يدل في الوقت نفسه على أن بلاد الإسلام كانت محضنا للعلم النافع حتى وإن كان حملته من غير المسلمين! فما بالنا إن حمله المسلمون، ولذلك كان من الإجحاف أن يقال: الإسلام بيئة طاردة للعلماء! كما ورد في السؤال، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح): معلوم أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أكمل من طائفتي أهل الكتاب ـ اليهود والنصارى ـ وأعدل، وقد جمع لهم محاسن ما في التوراة وما في الإنجيل، فليس عند أهل الكتاب فضيلة علمية وعملية إلا وأمة محمد صلى الله عليه وسلم أكمل منهم فيها. فأما العلوم: فهم أحذق في جميع العلوم من جميع الأمم، حتى العلوم التي ليست بنبوية ولا أخروية، كعلم الطب - مثلا - والحساب، ونحو ذلك، هم أحذق فيها من الأمتين، ومصنفاتهم فيها أكمل من مصنفات الأمتين، بل أحسن علما وبيانا لها من الأولين الذين كانت هي غاية علمهم، وقد يكون الحاذق فيها من هو عند المسلمين منبوذ بنفاق وإلحاد، ولا قدر له عندهم، لكن حصل له بما يعلمه من المسلمين من العقل والبيان ما أعانه على الحذق في تلك العلوم، فصار حثالة المسلمين أحسن معرفة وبيانا لهذه العلوم من أولئك المتقدمين اهـ.

والمقصود أنه لا يصح أن يلصق بالإسلام تقصير المسلمين عموما أو أهل السنة خصوصا، وإن كانوا أولى الناس بالعلوم النافعة، والحكمة ضالة المؤمن، ومع الإقرار بتقدم كثير من غير المسلمين ومن الزنادقة في العلوم الدنيوية إلا أن هذا لا يعني أن المسلمين من أهل السنة قد عُدموا في هذه المجالات، بل قد وجد منهم طائفة حسنة، ومن هؤلاء المشهورين في الطب مثل: أبو بكر بن زهر الأشبيلي، وقد ترجم له ابن أبي أصيبعة في عيون الأنباء في طبقات الأطباء، فقال: تميز في العلوم وأخذ صناعة الطب عن أبيه وباشر أعمالها... وكان حافظا للقرآن وسمع الحديث واشتغل بعلم الأدب والعربية، ولم يكن في زمانه أعلم منه بمعرفة اللغة، ويوصف بأنه قد أكمل صناعة الطب والأدب، وعانى عمل الشعر وأجاد فيه.. وكان ملازما للأمور الشرعية متين الدين قوي النفس محبا للخير، وكان مهيبا وله جرأة في الكلام، ولم يكن في زمانه أعلم منه بصناعة الطب، وذكره قد شاع واشتهر في أقطار الأندلس وغيرها من البلاد... اهـ.

وترجم له كذلك الذهبي في سير أعلام النبلاء وترجم لآبائه، وكلهم رؤوس في الطب، ومن هؤلاء أيضا: الكنجروذي محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أحمد النيسابوري، ترجم له الذهبي فقال: الشيخ، الفقيه، الإمام، الأديب، النحوي، الطبيب، مسند خراسان... قال عبد الغافر بن إسماعيل: له قدم في الطب والفروسية، وأدب السلاح، كان بارع وقته، لاستجماعه فنون العلم، أدرك الأسانيد العالية في الحديث والأدب.. اهـ.

ومنهم الرحبي رضي الدين يوسف بن حيدرة، ترجم له الذهبي فقال: البارع، العلامة، إمام الطب... حسن موقعه عند السلطان صلاح الدين، وقرر له ثلاثين دينارا على القلعة والبيمارستان .. وكان رئيسا، عالي الهمة، كثير التحقيق، فيه خير وعدم شر، تصدر للإفادة، وخرج له عدة أطباء كبار. اهـ..

وقال عنه ابن أبي أصيبعة في عيون الأنباء: هو الشيخ الحكيم الإمام العالم رضي الدين أبو الحجاج يوسف بن حيدرة بن الحسن الرحبي، من الأكابر في صناعة الطب والمتعينين من أهلها، وله القدم والاشتهار والذكر الشائع عند الخواص والعوام، ولم يزل مبجلا عند الملوك وغيرهم كثيري الاحترام له، وكان كبير النفس عالي الهمة كثير التحقيق حسن السيرة محبا للخير وأهله، شديد الاجتهاد في مداواة المرضى، رؤوفا بالخلق، طاهر اللسان، ما عرف منه في سائر عمره أنه آذى أحدا ولا تكلم في عرض غيره بسوء... وكان وصوله مع أبيه إلى دمشق في سنة 555 وكان في ذلك الوقت ملكها السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي. اهـ.

وعلى أية حال، فاستقصاء العلماء من أهل السنة والديانة يحتاج إلى دراسة واستقصاء، وهذا لا يتسنى في مجال الفتوى.

وأما دعوى أن الدولة العباسية تقدمت بسبب بعدها عن الإسلام في كثير من المجالات كالطب... فهذه دعوى سخيفة! فأيُّ تباعد بين الإسلام والطب أو غيره من العلوم النافعة، حتى يتقدم فيها من يبتعد عن الإسلام؟! ثم أي تقدم أو حضارة أو مدنية كانت عليه أوربا في العصور الوسطى ـ وهي مصدر الكتب المترجمة في عصر العباسيين ـ ليقال إن المسلمين استفادوا ذلك منهم؟! وراجع للفائدة الفويين رقم: 118176، ورقم: 174971.

وأخيرا ننبه على أن سبب شهرة من اشتهر في العلوم التجريبية من الملاحدة وأهل الانحراف العقدي دون غيرهم من أهل الديانة يحتاج إلى دراسة متأنية، ولعل ذلك إن حصل يظهر نتائج مهمة وحقائق تاريخية مفيدة، يعمل على إخفائها بعض المغرضين وأهل الأهواء.
والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني