السؤال
أقرأ تفسير القرآن في موقعكم، وأجد أن بعض المفسرين يذكرون أرقاما أو أسماء لا أعلم من أين أتوا بها، مثال لآية كي تتضح الصورة: قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ ـ فقد ذكر بعض المفسرين أنهم أربعة آلاف، وقيل تسعة آلاف، وقيل أربعون ألفا، وقيل غير ذلك، فعلى ماذا اعتمدوا اختيار هذه الأرقام؟ وكذلك بالنسبة للأسماء، فقد يقول بعض المفسرين: هو فلان، بل هو فلان، أو هي القرية الفلانية، وهكذا، فكيف لهم بتفسير الغيبيات دون دليل؟.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ {البقرة:243}.
وعددهم المذكور في التفاسير ليس من قول مصنفيها، وإنما من قول من قبلهم من السلف كابن عباس وغيره، كما في تفسير ابن كثير قال: روي عن ابن عباس أنهم كانوا أربعة آلاف، وعنه: كانوا ثمانية آلاف، وقال أبو صالح: تسعة آلاف، وعن ابن عباس: أربعون ألفاً، وقال وهب بن منبه وأبو مالك: كانوا بضعة وثلاثين ألفاً، قال: وقال وكيع بن الجراح في تفسيره: حدثنا سفيان عن ميسرة بن حبيب النهدي، عن المنهال بن عمرو الأسدي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت ـ قال: كانوا أربعة آلاف خرجوا فراراً من الطاعون قالوا: نأتي أرضاً ليس بها موت حتى إذا كانوا بموضع كذا وكذا قال الله لهم موتوا، فماتوا، فمر عليهم نبي من الأنبياء فدعا ربه أن يحييهم فأحياهم، فذلك قوله عز وجل: ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت الآية. انتهى.
وهذا إسناد جيد، رجاله رجال الصحيح عدا ميسرة بن حبيب، لكن روى له البخاري في الأدب المفرد، ووثقه أحمد وابن معين وقال ابن حجر في التقريب: صدوق.
وبهذا يعلم أن كثيرا من هذه الأقوال في التفسير مستندها ما أثر من أقوال الصحابة، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه مقدمة في أصول التفسير: فصل: تفسير القرآن بأقوال الصحابة: وحينئذ، إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرآن، والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح، والعمل الصالح، لا سيما علماؤهم وكبراؤهم... ومنهم الحبر البحر عبد الله بن عباس، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وترجمان القرآن ببركة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له، حيث قال: اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل.
قال: ولهذا غالب ما يرويه إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير في تفسيره عن هذين الرجلين ـ ابن مسعود وابن عباس ـ ولكن في بعض الأحيان ينقل عنهم ما يحكونه من أقاويل أهل الكتاب التي أباحها رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال: بَلِّغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حَرَج، ومن كَذَب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ـ رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو، ولهذا كان عبد الله بن عمرو قد أصاب يوم اليرموك زاملتَين من كتب أهل الكتاب، فكان يحدث منهما، بما فهمه من هذا الحديث من الإذن في ذلك، قال: ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تُذكر للاستشهاد لا للاعتقاد، فإنها على ثلاثة أقسام:
أحدها: ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق، فذاك صحيح.
والثاني: ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه.
والثالث: ما هو مسكوت عنه، لا من هذا القبيل، ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به ولا نكذبه وتجوز حكايته، لما تقدم، وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني، ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في مثل هذا كثيراً، ويأتي عن المفسرين خلاف بسبب ذلك، كما يذكرون في مثل هذا أسماء أصحاب الكهف، ولون كلبهم، وعدتهم، وعصا موسى من أي الشجر كانت، وأسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم، وتعيين البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة، ونوع الشجرة التي كلم الله منها موسى، إلى غير ذلك مما أبهمه الله في القرآن، مما لا فائدة في تعيينه تعود على المكلفين في دنياهم ولا دينهم، ولكن نقل الخلاف عنهم في ذلك جائز. انتهى.
قال ابن كثير في تفسيره بعد أن ذكر تفسيراً عن بعض الصحابة منهم ابن عباس: فهذا الإسناد إلى هؤلاء الصحابة مشهور في تفسير السدي، ويقع فيه إسرائيليات كثيرة، فلعل بعضها مدرج ليس من كلام الصحابة، أو أنهم أخذوه من بعض الكتب المتقدمة. والله أعلم. اهـ.
وفي كلامهما الجواب الكافي إن شاء الله تعالى.
والله أعلم.