السؤال
هل يجب أن يكون كل اكتشاف علمي أثبت بتجارب علمية له دليل في الكتاب والسنة، وإذا لم يوجد هذا الدليل فإن هذه الاكتشافات تعد مخالفة للشرع، مثل: إذا تم إعداد الأبحاث والتجارب على كيفية تحلل الجثة بعد الموت ومراحل التعفن التي تمر بها تعد هذه الأبحاث مخالفة للشرع لأنه ليس لها دليل في الكتاب والسنة؟.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالقرآن المجيد لا يمكن أن يتعارض مع حقيقة علمية ثابتة، بخلاف الاكتشافات العلمية التي لا تعدو طور النظريات القابلة للإصابة والخطأ، والتطوير والتغيير! هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنه لا يلزم أن يكون في القرآن دلالة على فروع وتفصيلات العلوم الحديثة، بل الغالب أنه يحتوي على دلالات عامة وكلية، وراجعي الفتوى رقم: 73672.
وبالنسبة لخصوص السؤال، فجوابه: أن البحث العلمي لا يصح وصفه بأنه مخالف للشرع لمجرد أنه ليس عليه دليل خاصة من الكتاب أو السنة، بخلاف ما إذا أدى إلى نتيجة تخالف ما ثبت في الشرع، والمثال الذي ذكرته السائلة ـ تحلل الجثث ومراحل التغفن ـ من النوع الأول، فليس فيها ما يخالف الشرع، وهنا ننبه على أن العموم الذي قد يفهم من بعض الآيات كقوله تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا {الإسراء: 12}.
أن هذا العموم يراد به الخصوص، فهو مقيد بالعقائد والأحكام الشرعية، أو بما يحتاج إليه عموم البشر، قال ابن الجوزي في زاد المسير: وَكُلَّ شَيْءٍ ـ أي: ما يُحتاج إِليه: فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا ـ بيّنّاه تبيينا لا يلتبس معه بغيره. اهـ.
وقال القرطبي في تفسيره: وكل شيء فصلناه تفصيلا ـ أي من أحكام التكليف، وهو كقوله: تبيانا لكل شيء، ما فرطنا في الكتاب من شيء. اهـ.
وقال ابن عاشور في التحرير والتنوير: والتفصيل في الأشياء يكون في خلقها ونظامها، وعلم الله بها وإعلامه بها، فالتفصيل الذي في علم الله وفي خلقه ونواميس العوالم عام لكل شيء، وهو مقتضى العموم هنا، وأما ما فصله الله للناس من الأحكام والأخبار فذلك بعض الأشياء، ومنه قوله تعالى: يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون {الرعد: 2} وقوله: قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون {الأنعام: 97} وذلك بالتبليغ على ألسنة الرسل، وبما خلق في الناس من إدراك العقول. اهـ.
وراجعي لمزيد الفائدة بحث: تصويبات في فهم بعض الآيات ـ للدكتور صلاح الخالدي عند قوله تعالى: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْ.
ومثل هذا يذكر في قوله تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ {النحل: 89}.
وقوله سبحانه: مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ {يوسف: 111}.
قال ابن الجوزي: وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ ـ يُحتاج إِليه من أمور الدين. اهـ.
ولتمام الفائدة نحيل السائلة على مبحث التفسير العلمي من كتب علوم القرآن، ومنها كتاب: دراسات في علوم القرآن ـ للدكتور فهد الرومي، قال فيه: يراد بالتفسير العلمي: اجتهاد المفسر في كشف الصلة بين آيات القرآن الكريم ومكتشفات العلم التجريبي والربط بينهما بوجه من الوجوه ـ وهذا تعريفه بما هو عليه، أما تعريفه بما ينبغي أن يكون عليه فهو: كشف الصلة بين النصوص القرآنية وحقائق العلم التجريبي ـ والفرق بينهما أن في الأول خلطًا بين النظريات والحقائق بحيث نجد كثيرًا من المفسرين يفسرون القرآن بهما من غير تحقيق، وما ينبغي أن يكون هو التمييز بين النظريات والحقائق، والاقتصار على الثانية دون الأولى في تفسير القرآن الكريم. اهـ.
وقد عرض رأي المؤيدين والمعارضين لهذا النوع من التفسير، ثم قال: قبل أن نذكر ما نراه صوابًا يجب أن نذكر حقيقة ينبغي إدراكها وهي التفريق بين التفسير العلمي، والإعجاز العلمي، فالأول هو مثار البحث والمناقشة، وأما الثاني فقضية مسلمة لا نزاع فيها، ذلكم أن المؤيدين للتفسير العلمي والمعارضين له أيضًا كلهم بلا استثناء يقرون ويعترفون أن القرآن الكريم لم ولن يصادم حقيقة علمية، لم يقولوا هذا عن عاطفة مجردة، ولم يقله أتباع القرآن فحسب، وإنما قاله أولئك، وقاله خصومه أيضًا بعد أن تناولوا آيات عديدة منه وقلبوها دراسة وتأملًا وتدبرًا، ونظروا فيما بين أيديهم من النظريات والحقائق العلمية حتى انتهوا إلى ما انتهوا إليه، وقد يحسب أحد أن السلامة من مصادمة الحقائق العلمية أمر هين فما على المتكلم إلا أن يتجنب الخوض في مجالاتها، ويحذر من الوقوع في مبهمات العلوم، وغوامض المعارف، وأسرار الكون وخفايا العلم، وبذا يظفر بهذه السمة، والأمر حق لو كان القرآن سلك هذا المسلك، لكنه وقد أنزل قبل أربعة عشر قرنًا من الزمن عرض لكثير من مظاهر هذا الكون كخلق السموات والأرض وخلق الإنسان، وسوق السحب وتراكمه، ونزول المطر، وجريان الشمس، وتحدث عن القمر والنجوم والشهب وأطوار الجنين، وعن النبات والبحار وغير ذلك كثير، ومع ذلك كله لم يسقط العلم كلمة من كلماته، ولم يصادم جزئية من جزئياته، فإذا كان الأمر كذلك، فإن هذا بحد ذاته يعتبر إعجازًا علميًّا للقرآن حتى ولو لم يتم الربط بين الآية والاكتشاف العلمي الحديث، وهذا أمر يدركه ويقره كل العلماء لا ينكره أحد، فالإعجاز العلمي في القرآن متحقق مدرك ثابت لا خلاف فيه، ثم انقسم العلماء بعد ذلك إلى قسمين، فمنهم من قال: ما دام الإعجاز العلمي متحققًا في القرآن وثابتًا فما علينا أن نطبقه بين آياته واحدة واحدة وبين الحقائق العلمية واحدة واحدة، وامتنعت طائفة أخرى عن تطبيقه لا خوفًا عليه من النقض وليس لخشية على حقائقه، ولكن لعدم الثقة في مداركنا نحن البشر، فقد نحسب نظرية علمية حقيقة علمية فما تلبث إلا قليلًا حتى تتقوض بعد رسوخ، وتتزعزع بعد ثبوت، ولات حين مناص نقع في الحرج الشديد فيكذب القرآن وهو الصادق، فتكون البلية، فالعيب والنقص في مداركنا وليس في حقائق القرآن، وبهذا تدرك أن الجميع يقول بالإعجاز العلمي في القرآن، لكن منهم من قال بجواز التفسير العلمي، ومنهم من منعه، والذي نراه صوابًا هو الوسط بين الفريقين.
وراجعي لمزيد الفائدة كتاب: التفسير والمفسرون ـ للدكتور محمد حسين الذهبي.
والله أعلم.