السؤال
هناك شبهة في حديث الآحاد هي: أن الرواة بشر، يجوز عليهم الخطأ والنسيان، فحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر أن الصعقة تكون يوم الجمعة، لكن هنا تأتي الشبهة وتقول: ماذا لو أن الراوي سمعها السبت, لكنه ارتبك وأخبر أنها الجمعة؟ فكيف للعالم الذي يحكم بصحته وضعفه أن يعلم إن كان حديثًا غريبًا؟ وأنا أعلم أن الأصل عدالة الراوي وتمام ضبطه, ومن الخطأ أن نرفض حديثًا بسبب: {ماذا لو؟}، لكني كلما أقرأ حديثًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم يبدأ الوهم في صدري والشك ... وهل يجوز لي - في حالتي - لو قرأت حديثًا صحيحًا أو حسنًا أن أقول: أنا مصدق بكل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأنا لا أعلم هل هذا الحديث صحيح أم لا، لكنه غالبًا ما يكون صحيحًا، لكني لا أتيقن يقينًا جازمًا به؛ لأنه من الممكن أن يكون ضعيفًا، لكنه لو كان بالفعل قاله محمد صلى الله عليه وسلم فأنا متيقن به، فأنا أعتقد بشكل عام كل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهل القول بحفظ السنة هو رد على هذه الشبهة؟ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قال: السبت, لوصلت لنا بلفظ السبت؛ لأن الله حفظ الحديث، وهل قول: إن الأحاديث الغريبة الصحيحة قليلة صحيح؟ فإذا نسي أو أخطأ راوٍ من الرواة في السند الفلاني فإن العلماء يتنبهون للخطأ عن طريق سند آخر له ردًا على الشبهة أيضًا.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنه لا شك أن الرواة الثقات قد يخطئون في بعض الأحاديث، ولكن مما لا شك في بطلانه أيضًا أن يتتابع العلماء قديمًا وحديثًا على خطأ ما، وأن تجتمع الأمة على هذا الخطأ؛ لأن الأمة لا تجتمع إلا على حق.
وكذلك إذا علم أن جمهور السنة هي أحاديث آحاد على تعريف علماء المصطلح، فمعنى هذا أن الشك سيكون في غالب السنة، وأنك ستبني دينك على التردد والشك والوهم، كما هو حاصل معك، وذلك لا يجوز.
ومن علم أحوال الرواة والنقاد علم بطلان هذا التردد والشك بحجة أن الراوي ربما أخطأ في روايته وسماعه, نعم, يصح هذا التردد لمن كان أهلًا للنظر في الأحاديث تصحيحًا وتضعيفًا، ولكن يكون ذلك في بعض أحاديث الآحاد - لا كلها أو أغلبها -.
وإليك نصوص بعض الأئمة في تثبيت خبر الواحد، والاستدلال به في العقائد التي لا يصح فيها التردد والشك، وأنهم يدينون الله بخبر الواحد، بل يوالون ويعادون على ما دل عليه خبر الواحد، وينقلون الإجماع على ذلك.
قال الإمام الشافعي: ولو جاز لأحد من الناس أن يقول في علم الخاصة: أجمع المسلمون قديمًا وحديثًا على تثبيت خبر الواحد والانتهاء إليه، بأنه لم يعلم من فقهاء المسلمين أحد إلا وقد ثبته جاز لي ولكن أقول: لم أحفظ عن فقهاء المسلمين أنهم اختلفوا في تثبيت خبر الواحد بما وصفت من أن ذلك موجود على كلهم. انتهى.
وقال الإمام ابن عبد البر: وأجمع أهل العلم من أهل الفقه والأثر في جميع الأمصار فيما علمت على قبول خبر الواحد العدل، وإيجاب العمل به إذا ثبت, ولم ينسخه غيره من أثر أو إجماع، على هذا أجمع الفقهاء في كل عصر من لدن الصحابة إلى يومنا هذا، إلا الخوارج، وطوائف من أهل البدع شرذمة لا تعد خلافًا، وقد أجمع المسلمون على جواز قبول الواحد السائل المستفتي لما يخبره به العالم الواحد إذا استفتاه فيما يعلمه. انتهى من التمهيد.
وقال الإمام ابن القيم: وأما المقام الثامن: وهو انعقاد الإجماع المعلوم المتيقن على قبول هذه الأحاديث وإثبات صفات الرب تعالى بها، فهذا لا يشك فيه من له أقل خبرة بالمنقول، فإن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ هم الذين رووا هذه الأحاديث, وتلقاها بعضهم عن بعض بالقبول, ولم ينكرها أحد منهم على من رواها، ثم تلقاها عنهم جميع التابعين من أولهم إلى آخرهم. انتهى.
وقال العلامة المعلمي في التنكيل: أما الانفراد فليس بمانع من الاحتجاج عند أهل السنة, بل بإجماع الصحابة والتابعين، بل الأدلة في ذلك أوضح، ولم يشترط التعدد إلا بعض أهل البدع، نعم, قد يتوقف في بعض الأفراد لقيام قرائن تشعر بالغلط، والمرجع في ذلك إلى أئمة الحديث. انتهى.
وقال المعلمي أيضًا في معرض رده على من يتذرع للطعن في السنة باحتمال وجود الخطأ أو الوضع فيها: وأعداء الإسلام، وأعداء السنة يتشبثون بذلك في الطعن في السنة, كأنهم لا يعلمون أنه لم يزل في أخبار الناس في شؤون دنياهم الصدق والكذب، ولم تكن كثرة الكذب بمانعة من معرفة الصدق: إما بيقين, وإما بظن غالب يجزم به العقلاء, ويبنون عليه أمورًا عظامًا، ولم يزل الناس يغُشُّون الأشياء النفيسة ويصنعون ما يشبهها - كالذهب والفضة والدر والياقوت والمسك والعنبر والسمن والعسل والحرير والخز وغيرها - ولم يحل ذلك دون معرفة الصحيح، والخالق الذي هيأ لعباده ما يحفظون به مصالح دنياهم هو الذي شرع لهم دين الإسلام, وتكفل بحفظه إلى الأبد, وعنايته بحفظ الدين أشد وآكد؛ لأنه هو المقصود بالذات من هذه النشأة الدنيا, قال الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}, ومن مارس أحوال الرواية وأخبار رواة السنة وأئمتها علم أن عناية الأئمة بحفظها وحراستها ونفي الباطل عنها والكشف عن دخائل الكذابين والمتهمين كانت أضعاف عناية الناس بأخبار دنياهم ومصالحها، وفي تهذيب التهذيب ج 1 ص 152: قال إسحاق بن إبراهيم : أخذ الرشيد زنديقًا فأراد قتله فقال: أين أنت من ألف حديث وضعتها؟ فقال له: أين أنت - يا عدو الله - من أبي إسحاق الفزاري وابن المبارك ينخلانها حرفًا حرفًا؟ وقيل لابن المبارك: هذه الأحاديث المصنوعة؟ قال: تعيش لها الجهابذة. وتلا قول الله عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}, والذكر يتناول السنة بمعناه إن لم يتناولها بلفظه، بل يتناول العربية وكل ما يتوقف عليه معرفة الحق، فإن المقصود من حفظ القرآن أن تبقى الحجة قائمة والهداية دائمة إلى يوم القيامة: لأن محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء، وشريعته خاتمة الشرائع، والله عز وجل إنما خلقهم لعبادته, فلا يقطع عنهم طريق معرفتها، وانقطاع ذلك في هذه الحياة الدنيا انقطاع لعلة بقائهم فيها. انتهى الغرض من كلام المعلمي.
ومن كلامه هذا الأخير: تعلم أن الاستدلال بأن الله قد حفظ السنة يصح في رد هذه الشبهة، وكذلك أن علماء الحديث لا يخفى عليهم خطأ الراوي، وليس ذلك مختصًا بالأحاديث الغريبة فقط.
وللفائدة يرجى مراجعة هذه الفتوى: 6906.
والله أعلم.