السؤال
لدي سؤالان في ذلك الحديث وهو:
حديث عقبة بن الحارث رضي الله عنه أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب قال: فجاءت أمة سوداء فقالت: قد أرضعتكما، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأعرض عني، قال: فتنحيت فذكرت ذلك له، قال: وكيف وقد زعمت أن قد أرضعتكما فنهاه عنها. رواه البخاري وترجم عليه: باب شهادة المرضعة .
1-فهل في ذلك الحديث أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يسأل عن عدد الرضعات فهل هذا يدل على أن الرضعة الواحدة تحرم؟
وإن كان كذلك فقد ذكرتم من أحاديث أخرى في قسم الفتاوى أن الراجح هو خمس رضعات. فكيف نفهم ما يدل عليه الحديث؟
2-وأيضاً إن كان هناك شك في التحقق من أن الرضاع قد حدث أم لا، أو الشك في عدد الرضعات. فهل يؤخذ بذلك الحديث في التحريم بمجرد أن يقال إن هناك رضاعا ؟
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد اختلف العلماء في القدر المحرم من الرضاعة، فمنهم من قال: إن قليل الرضاع وكثيره سواء في التحريم، ومنهم من قال: لا يحرم إلا ثلاث رضعات فصاعداً، وذهبت طائفة ثالثة إلى أنه لا يحرم إلا خمس رضعات، ولكل من هؤلاء دليله الذي يدعم به قوله، ويقوي به رأيه، وقد فصل الأدلة فى هذه المسألة الإمام ابن القيم فى زاد المعاد حيث قال: فأثبتت طائفة من السلف والخلف التحريم بقليل الرضاع وكثيره، وهذا يروى عن على وابن عباس، وهو قولُ سعيد بن المسيب، والحسن والزهرى، وقتادة، والحكم، وحماد، والأوزاعى، والثورى، وهو مذهبُ مالك، وأبى حنيفة، وزعم الليثُ بنُ سعد أن المسلمين أجمعوا على أن قليل الرضاع وكثيره يُحرِّم فى المهد ما يُفْطِرُ به الصائم، وهذا رواية عن الإمام أحمد رحمه الله.
وقالت طائفة أخرى: لا يثبُت التحريمُ بأقلَّ مِن ثلاث رضعات، وهذا قولُ أبى ثور، وأبى عبيد، وابن المنذر، وداود بن على، وهو روايةٌ ثانية عن أحمد.
وقالت طائفة أخرى: لا يثُبت بأقلَّ مِن خمس رضعات، وهذا قول عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن الزبير، وعطاء، وطاووس، وهو إحدى الروايات الثلاث عن عائشة رضى الله عنها، والرواية الثانية عنها: أنه لا يحرم أقل من سبع، والثالثة: لا يحرم أقل من عشر. والقول بالخمس مذهب الشافعى، وأحمد في ظاهر مذهبه، وهو قولُ ابن حزم، وخالف داود في هذه المسألة.
فحجةُ الأولين أنه سبحانه علَّقَ التحريم باسم الرضاعة، فحيث وجد اسمُها وُجدَ حكمُها، والنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "يحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَة مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ" وهذا موافق لإطلاق القرآن. وثبت فى "الصحيحين"، عن عقبة بن الحارث، أنه تزوج أمّ يحيى بنت أبى إهاب، فجاءت أمةٌ سوداء، فقالت: قد أرضعتُكما، فذكر ذلك للنبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأعرض عني، قال: فتنحيت فذكرت ذلك له، قال: "وكيْف وقَدْ زَعَمَتْ أَنَّهَا قَدْ أَرْضَعَتْكُما فنهاهُ عنها"، ولم يسأل عن عدد الرضاع، قالوا: ولأنه فعل يتعلق به التحريم، فاستوى قليلهُ وكثيره، كالوطء الموجب له، قالوا: ولأن إنشاز العظم، وإنبات اللحم يحصُل بقليله وكثيره. قالُوا: ولأن أصحابَ العدد قد اختلفت أقوالهم فى الرضعة وحقيقتها، واضطربت أشدَّ الاضطراب، وما كان هكذا لم يجعله الشارعُ نصاباً لِعدم ضبطه والعلم به. قال أصحابُ الثلاث: قد ثبت عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "لا تُحرِّمُ المصَّةُ والمصَّتان"، وعن أم الفضل بنتِ الحارث قالت: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تُحَرِّمُ الإمْلاجَةُ والإمْلاَجَتَانِ ". وفى حديث آخر: أن رجلاً قال: يا رسولَ الله، هل تُحَرِّمُ الرضعةُ الواحِدة؟ قال: "لا". وهذه أحاديث صحيحة صريحة، رواها مسلم فى "صحيحه"، فلا يجوز العدولُ عنها فأثبتنا التحريمَ بالثلاث لِعموم الآية، ونفينا التحريمَ بما دونها بصريحِ السنة قالُوا: ولأن ما يُعتبر فيه العدد والتكرارُ يُعتبر فيه الثلاث. قالوا: ولأنها أولُ مراتب الجمع، وقد اعتبرها الشارعُ فى مواضع كثيرة جداً.
قال أصحابُ الخمسِ: الحجةُ لنا ما تقدَّم فى أول الفصل من الأحاديث الصحيحة الصريحة، وقد أخبرت عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توفى والأمرُ على ذلك، قالُوا: ويكفى فى هذا قولُ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسهلة بنت سهيل: "أَرضِعِى سَالِماً خَمْسَ رَضَعَاتٍ تَحْرُمِى عَلَيْهِ". قالُوا: وعائشة أعلمُ الأمة بحكم هذه المسألة هى ونساءُ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكانت عائشةُ رضى الله عنها إذا أرادت أن يدْخُلَ عليها أحد أمرت إحدى بَنَاتِ إخوتِها أو أخواتِها فأرضعتهُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ. قالوا: ونفي التحريم بالرضعة والرضعتين صريحٌ فى عدم تعليق التحريم بقليل الرضاع وكثيرة، وهي ثلاثةُ أحاديث صحيحة صريحة بعضُها خرج جواباً للسائل، وبعضُها تأسيسُ حكم مبتدأ. قالُوا: وإذا علقنا التحريمَ بالخمس، لم نكن قد خالفنا شيئاً من النصوص التى استدللتُم بها، وإنما نكونُ قد قيدنا مطلقها بالخمس، وتقييدُ المطلقِ بيانٌ لا نسخ ولا تخصيصٌ. وأما من علَّق التحريمَ بالقليل والكثير، فإنه يُخالف أحاديثَ نفي التحريم بالرضعة والرضعتين، وأما صاحبُ الثلاث، فإنه وإن لم يُخالفها، فهو مخالفٌ لأحاديث الخمس. انتهى.
وفى الشرح الممتع للشيخ ابن عثيمين متحدثا عن شروط الرضاع : أن يكون الرضاع خمس رضعات فأكثر، هذا هو القول الراجح، لحديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ الذي رواه مسلم : «أنه كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات». فإذا نقص عن خمس فلا أثر له، ولا تقل: ما الفرق بين الرابعة والسادسة مثلاً، أو الخامسة؟ لأن هذا حكم الله ـ عزّ وجل ـ، فيجب التسليم له، كما أننا لا نقول: لماذا كانت الظهر أربعاً، ولم تكن خمساً أو ستاً؟ فهذه مسائل توقيفية. وقيل: إنه يثبت التحريم بالثلاث لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان » ، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «ولا المصَّة ولا المصَّتان» . فنقول: إن دلالة حديث عائشة بالمنطوق أن الثلاث لا تحرم، ونحن نقول به؛ لأننا إذا قلنا: إن الأربع لا تحرم، فالثلاث من باب أولى، لكن مفهوم هذا الحديث أن الثلاث تحرم، إلا أن هناك منطوقاً، وهو أن المحرِّم خمس رضعات، والقاعدة عند أهل العلم (أن المنطوق مقدم على المفهوم). ومن العلماء من قال: إن الرضعة الواحدة تحرِّم؛ لأن الله تعالى أطلق في قوله: {وَأُمَهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] فيقال: المطلق من القرآن إذا قُيِّد بالسنة صار مقيداً؛ لأن السنة شقيقة القرآن، فهي تبينه، وتفسره، وتقيد مطلقه، وتخصِّص عامَّه. انتهى.
فالحاصل أن لكل قول دليلا، والحديث المذكور فى السؤال قد استدل به القائلون بثبوت التحريم بقليل الرضاع وكثيره حيث قالوا إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل عن عدد الرضاع هل هو واحدة أو أكثر.
لكن الراجح أن التحريم لا يكون إلا بخمس رضعات فأدلته مخصصة لعموم الحديث. والقاعدة أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال يجري مجرى العموم في المقال.
وإليها الإشارة بقول الشنقيطي في مراقي السعود:
ونزلن ترك الاستفصال منزلة العموم في المقال .
والله أعلم.