الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فليس بلازم أن يفصل القرآن في كل شيء في مثل هذه المواضيع، ومع هذا فقد تكلم بعض المعاصرين على موضوع البويضة وهل ذكرت في القرآن؟ فذكر بعضهم أن النطفة وصفت في بعض الآيات في قوله تعالى: من نطفة أمشاج ـ والأمشاج هي الأخلاط المجتمعة من الجنسين، وهي البويضة المخصبة، قال د. محمد دودح الباحث العلمي بالهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة: ليس غرض القرآن أن يعطي المخاطب درسا في علم الأجنة على نحو المقررات الدراسية اليوم, وإنما يمد بصره في نظرة أوسع من آفاق المألوف تعيده إلى البداية، حيث لم يكن شيئا لتقوده إلى اليقين بقدرة الله، يقول العلي القدير: أولا يذكر إلإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا {مريم: 67} وفي ثنايا العرض ترد في عفوية جملة من الحقائق التي لم يكن يعلم بها أحد زمن التنزيل، يقول العلي القدير: هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا {الإنسان: 1ـ2} فلم يكن يعلم أحد بتكون الجنين من بويضة مخصبة Fertilized egg تماثل ـ نطفة ـ أي قطرة ماء غاية في الضآلة، ذات أخلاط تحتوي على مكونات وراثية من الأبوين، نسميها اليوم كروموزومات Chromozomes ويكفيك أن تعرف أن الإدراك بتكون الجنين من أخلاط من الجنسين، أي أمشاج, لم يتحقق إلا بعد عقود من اكتشاف المجهر في القرن السابع عشر, وأول من استخدم عدسة بسيطة في دراسة أجنة الدجاج هو هارفي Harvey عام 1651م ولصعوبة معاينة المراحل الأولى استنتج أن الأجنة ليست إلا إفرازات رحمية, وفي عام 1672، اكتشف جراف Graaf حويصلات المبايض Graafian Follicles وعاين حجيرات في أرحام الأرانب الحوامل تماثلها فاستنتج أن الأجنة ليست إفرازات من الرحم، وإنما من المبايض, ولم تكن تلك التكوينات الدقيقة التي عاينها جراف سوى تجاويف في كتل الخلايا الجنينية الأولية Blastocysts, وفي عام 1675م عاين مالبيجي Malpighi أجنة في بيض الدجاج، واعتقد بأنه يحتوى على كائن مصغر ينمو في الحجم فحسب، ولا يتخلق في أطوار, وباستخدام مجهر أكثر تطورا اكتشف هام Hamm وليفنهوك Leeuwenhoek الحوين المنوي عام 1677م، وظنا أيضا أنه يحتوي على الإنسان مصغرا، وفي عام 1827م عاين فون بير von Baer البويضة, وأخيرا انتهى الجدل حول فرضية الخلق المكتمل، وتأكدت أهمية كل من الحوينات المنوية والبويضة، واستقرت حقيقة التخلق في أطوار, وفي عام 1878م اكتشف فليمنج Flemming الكروموزومات, وفي القرن العشرين تم التحقق نهائيا من احتواء البويضة المخصبة على تلك الأخلاط الوراثية، والتخلق من الذكر والأنثى [The Developing Human, Keith L. Moore, Fourth ed.,1988, Saunders Comp., Toronto, P: 7-11, 14.]... اهـ
وقال سيد قطب: في تفسير قوله تعالى: إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً ـ والأمشاج: الأخلاط وربما كانت هذه إشارة إلى تكون النطفة من خلية الذكر وبويضة الأنثى بعد التلقيح، وربما كانت هذه الأخلاط تعني الوراثات الكامنة في النطفة، والتي يمثلها ما يسمونه علمياً ـ الجينات ـ وهي وحدات الوراثة الحاملة للصفات المميزة لجنس الإنسان أولاً ولصفات الجنين العائلية أخيراً وإليها يعزى سير النطفة الإنسانية في رحلتها لتكوين جنين إنسان، لا جنين أي حيوان آخر، كما تعزى إليها وراثة الصفات الخاصة في الأسرة.. ولعلها هي هذه الأمشاج المختلطة من وراثات شتى ... اهـ.
وقال محمد علي البار في كتابه: خلق الإنسان بين الطب والقرآن: العلم الحديث يكشف أن الحيوانات المنوية يحملها ماء دافق هو ماء المني, كذلك البويضة في المبيض تكون في حويصلة ـ جراف ـ محاطة بالماء فإذا انفجرت الحويصلة تدفق الماء.. وتلقفت أهداب البوق البويضة لتدخلها إلى قناة الرحم حيث تلتقي بالحيوان المنوي لتكون النطفة الأمشاج.. هذا الماء يحمل البويضة تماما كما يحمل ماء الرجل الحيوانات المنوية, كلاهما يتدفق, وكلاهما يخرج من بين الصلب والترائب: من الغدة التناسلية، الخصية أو المبيض.. وتتضح مرة أخرى معاني الآية الكريمة في إعجازها العلمي الرائع: ماء دافق من الخصية يحمل الحيوانات المنوية, وماء دافق من حويصلة ـ جراف ـ بالمبيض يحمل البويضة. اهـ.
وقد ذكر بعض قدامى المفسرين أن الماء يأتي من الأبوين من الرجل والمرأة، كما قال الله عز وجل: فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ { الطارق:5ـ7}.
قال الشوكاني ـ رحمه الله ـ في فتح القدير: أراد الله سبحانه وتعالى ماء الرجل والمرأة، لأن الإنسان مخلوق منهما، لكن جعلهما ماء واحدا لامتزاجهما، والولد لا يكون إلا من الماءين. انتهى.
وقال القرطبي ـ رحمه الله ـ عند قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى {الحجرات:13} ذهب قوم من الأوائل إلى أن الجنين إنما يكون من ماء الرجل وحده، ويتربى في رحم المرأة ويستمد من الدم الذي يكون فيه، واحتجوا بقوله تعالى: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ { المرسلات:20} وبقوله تعالى: أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى {القيامة:37} فدل على أن الخلق من ماء واحد، والصحيح أن الخلق إنما يكون من ماء الرجل والمرأة لهذه الآية، فإنها نص لا يحتمل التأويل، وقوله تعالى: خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ {الطارق} والمراد أصلاب الرجال وترائب النساء على ما سيأتي بيانه، وأما ما احتجوا به فليس فيه أكثر من أن الله تعالى ذكر خلق الإنسان من الماء والسلالة والنطفة ولم يضفها إلى أحد الأبوين دون الآخر، فدل على أن الماء والسلالة لهما والنطفة منهما بدلالة ما ذكرنا، وبأن المرأة تمني كما يمني الرجل، وعن ذلك يكون الشبه. انتهى.
والله أعلم.