الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فما يأتي في كثير من كتب الفقه من تشبيه المهر بالأجرة، والنكاح بالبيع، إنما هو من باب الفصل بين الزوجين في الحقوق، وهذا إنما يظهر عند المشاحة والخصومة. ولا يعني من قريب ولا من بعيد أن الزواج عقد مبايعة ومثامنة، وإنما هو مكارمة. ولذلك يصح النكاح دون تسمية المهر عند العقد، ولو كان بيعا أو إجارة حقيقةً لم يصح !!
ومن أمعن النظر في مشروعية المهر لوجد ذلك من محاسن الإسلام، ورفعه لشأن المرأة وتكريمه إياها، وقد تناول طائفة من الفقهاء وغيرهم الحديث عن حكمة وجوب المهر.
قال الدهلوي في (حجة الله البالغة): من الأمر الذي يتميز به النكاح من السفاح التوطين على المعاونة الدائمة، وإن كان الأصل فيه قطع المنازعة فيها على أعين الناس. وكانوا لا يناكحون إلا بصدق لأمور بعثتهم على ذلك، وكان فيه مصالح منها أن النكاح لا تتم فائدته إلا بأن يوطن كل واحد نفسه على المعاونة الدائمة، ويتحقق ذلك من جانب المرأة بزوال أمرها من يدها، ولا جائز أن يشرع زوال أمره أيضا من يده وإلا انسد باب الطلاق، وكان أسيرا في يدها كما أنها عانية بيده، وكان الأصل أن يكونوا قوامين على النساء، ولا جائز أن يجعل أمرهما إلى القضاء؛ فان مراجعة القضية إليهم فيها حرج، وهم لا يعرفون ما يعرف هو من خاصة أمره، فتعين أن يكون بين عينيه خسارة مال إن أراد فك النظم لئلا يجترئ على ذلك إلا عند حاجة لا يجد منها بدا، فكان هذا نوعا من التوطين. وأيضا لا يظهر الاهتمام بالنكاح إلا بمال يكون عوض البضع، فإن الناس لما تشاحوا بالأموال شحا لم يتشاحوا به في غيرها كان الاهتمام لا يتم إلا ببذلها، وبالاهتمام تقر أعين الأولياء حين يتملك هو فلذة أكبادهم، وبه يتحقق التمييز بين النكاح والسفاح، وهو قوله تعالى: {أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين} فلذلك أبقى النبي صلى الله عليه وسلم وجوب المهر كما كان. اهـ.
وقال المرغيناني في(الهداية): يصح النكاح وإن لم يسم فيه مهرا؛ لأن النكاح عقد انضمام وازدواج لغة، فيتم بالزوجين، ثم المهر واجب شرعا؛ إبانة لشرف المحل، فلا يحتاج إلى ذكره لصحة النكاح. اهـ.
قال البدر العيني في شرحه (البناية): "إظهارا لشرف المحل": أي لأجل إظهار شرف المحل وخطره؛ صيانة عن شبهة البدل. اهـ.
وقال الكاساني: لو لم يجب المهر بنفس العقد لا يبالي الزوج عن إزالة هذا الملك بأدنى خشونة تحدث بينهما ؛ لأنه لا يشق عليه إزالته لما لم يخف لزوم المهر ؛ فلا تحصل المقاصد المطلوبة من النكاح ؛ ولأن مصالح النكاح ومقاصده لا تحصل إلا بالموافقة ولا تحصل الموافقة إلا إذا كانت المرأة عزيزة مكرمة عند الزوج ؛ ولا عزة إلا بانسداد طريق الوصول إليها إلا بمال له خطر عنده ؛ لأن ما ضاق طريق إصابته يعز في الأعين فيعز به إمساكه ؛ وما تيسر طريق إصابته يهون في الأعين فيهون إمساكه ؛ ومتى هانت في أعين الزوج تلحقها الوحشة فلا تقع الموافقة ولا تحصل مقاصد النكاح. اهـ.
وقال الأستاذ مصطفى السباعي في كتاب (المرأة بين الفقه والقانون): المهر في الاسلام رمز لإكرام المرأة والرغبة في الاقتران بها. اهـ.
وقال الدكتور الزحيلي في (الفقه الإسلامي وأدلته): الحكمة من وجوب المهر هو إظهار خطر هذا العقد ومكانته، وإعزاز المرأة وإكرامها، وتقديم الدليل على بناء حياة زوجية كريمة معها، وتوفير حسن النية على قصد معاشرتها بالمعروف، ودوام الزواج. وفيه تمكين المرأة من التهيؤ للزواج بما يلزم لها من لباس ونفقة. اهـ.
وجاء في كتاب (عودة الحجاب) للدكتور محمد إسماعيل المقدم: ذكر المهر ليس شرطا ولا ركنا في العقد، وإنما هو أثر من آثاره المترتبة عليه، ولذا اغتفر فيه الجهل اليسير، والغرر الذي يرجَى زَوالُه، فإن لم يُسَمَّ المهر في العقد صح بالإجماع - مع الكراهة - على أن يسمى لها مهر بعد العقد، أو يكون لها مهر المثل في ذمة الزوج ... ومع أن الإسلام قد جعل المهر - نقدًا أو عينا - حقا للمرأة، وألزم الزوج الوفاء به، إلا أنه حرره من عنصر " الثمنية" المادية، فلم يحدده بقدر محدد أصلا، ولم ينظر إليه بذاته، ولقد كان عرب الجاهلية يرونه ثمنًا للمرأة عند زواجها، ويطلقون عليه "النافجة" أي الزيادة والكثرة، وكان من حق الأب، لا الابنة المخطوبة ... والمهر عطية فرضها الله للمرأة، ليست مقابل شيء يجب عليها بذله إلا الوفاء بحقوق الزوجية، كما أنها لا تقبل الإسقاط - ولو رضيت المرأة - إلا بعد العقد، وهذه الآية تعلن على الملأ: (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا فكلوه هنيئًا مريئًا) ... قال القاضي أبو يعلى: "وقيل: إنما سمى المهر نحلة لأن الزوج لا يملك بدله شيئًا، لأن البضع بعد النكاح في مِلك المرأة، ألا ترى أنها لو وطئت بشبهة كان المهر لها دون الزوج، وإنما الذي يستحقه الزوج الاستباحة، لا الملك".
وقال الألوسي: "فإن قلت: إن النحلة أخذت في مفهومها أيضا عدم العوض، فكيف يكون المهر بلا عوض وهو في مقابلة البضع والتمتع به؟ أجيب: بأنه لما كان للزوجة في الجماع مثل ما للزوج أو أزيد، وتزيد عليه بوجوب النفقة والكسوة، كان المهر مجانا لمقابلة التمتع بأكثر منه". وقيل: النحلة: العطية بطيب نفس، أي: " لا تعطونهن مهورهن وأنتم كارهون "، وقيل: النحلة: الديانة، أي: آتوهن صدقاتهن ديانةً. والحاصل أن المهر حق مفروض للمرأة، فرضته لها الشريعة ليكون تعبيرًا عن رغبة الرجل فيها، ورمزَا لتكريمها وإعزازها، وقد صرح الفقهاء بقولهم: "المهر فُرضَ شرعَا لإظهار خطَرِ المحل" ... لقد فرض الشرع الشريف المهر للزوجة منحة تقدير تحفظ عليها حياءها وخَفرَها، وتعبر عن تكريم الزوج لها ورغبته فيها، إلا أنه مِن جانب آخر- حَث على يُسْرِه وخِفتِهِ ... وليس من الإسلام ما يحاوله بعض الذين استعبدتهم أوربا أن يغضوا من شأن المهر، والإفاضة في ذكر مساوئ المغالاة فيه بهدف التوصل إلى غاية خطيرة ألا وهي: إلغاء المهر، كلا .. فليس من المنطق الصحيح في شيء أن نعالج تعسف الناس في استعمال القانون بأن نلغي القانون، لأنا بهذا لن نبقي في الدنيا قانونا، إنما نكون كالذي آلمته عينه فعمد إليها وقلعها، كي لا تؤلمه من بعد ... وقد أدى هذا المسلك الوخيم بالأوربيين إلى أن تُقَدمَ المرأة هناك بعض المال للرجل، وتكلف هي بإعداد المنزل من مالها.. نعم من مال المرأة ... وهذا معناه أنه لا تزوج المرأة إلا إذا كانت ذات مال، أو تضطر لمعاناة مشقات الحياة ونكد الدنيا لتحصيل نفقات الزواج، ومعناه أيضًا أن نغض من كرامة المرأة، ونضطرها أن تسعى إلى الرجل تطلب يده، فنفرض عليها أن تمزق حجب الحياء والخفر الذي هو زينة أخلاق المرأة، وميزان أصالتها ... اهـ.
والمقال الذي أشارت إليه السائلة قد أشار إلى طرف من هذه الحكم السابقة، وبهذا يتبين الفرق الهائل بين شريعة المهر للمرأة المسلمة عند نكاحها، وبين الأجرة الخبيثة الرخيصة ـ ولو كثرت ـ التي تتعاقد عليها البغي. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مهر البغي خبيث. وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: شر الكسب مهر البغي. رواهما مسلم.
ونعود فنؤكد أن ما يذكره الفقهاء من أن مهر المرأة أو نفقتها على زوجها يقع في مقابلة البضع، إنما يعنون بذلك تمييز الحقوق والفصل في المنازعات عند حصولها، ولا يريدون بذلك الثمنية والعوض المحض.
ثم ننبه على أن المهر ليس حقا محضا للزوجة، بل هو مشتمل على حق لله تعالى وشرعه قبل أن يكون حقا للمرأة، وفي هذا أبلغ بيان لقدر المهر في ميزان الشريعة.
قال الباحث محمد يعقوب الدهلوي في بحثه (ضمانات حقوق المرأة الزوجية): ومن الأصول المؤكدة لوجوب الحقوق الزوجية، أن منها حقوقا مشتملة على حق الله وحق العبد كإيجاب المهر، ومنها ما هي حقوق خالصة للعبد، كحق النفقة، فما كان من الحقوق مشتملة على حق الله، فواضح أنها تتصف بوجوب أدائها، لاشتمالها على حق الله تعالى. اهـ.
وأما مسألة إجابة الزوج لزوجته في الفراش، فإن الشرع قد جعل من حق المرأة على زوجها أن يعفها، فإذا احتاجت وكان قادرا وجب عليه إجابتها على الراجح من أقوال أهل العلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: يجب على الرجل أن يطأ زوجته بالمعروف، وهو من أوكد حقها عليه، أعظم من إطعامها، والوطء الواجب قيل: إنه واجب في كل أربعة أشهر مرة. وقيل: بقدر حاجتها وقدرته، كما يطعمها بقدر حاجتها وقدرته. وهذا أصح القولين. اهـ.
ثم ينبغي أن لا نغفل الفرق الواضح بين حاجة الرجل وحاجة المرأة، وما يتطلبه حصول كل منهما، لندرك الفرق بين طبيعة إجابة كل من الزوجين لحاجة الآخر !! وراجعي لمزيد الفائدة عن ذلك الفتويين: 8935، 158357.
والله أعلم.