السؤال
ما حكم الكذب في السياسة من أجل مصلحة الإسلام؟ مثال ذلك لو سأل صحفي أحد المسلمين الصالحين المرشحين لرئاسة إحدى الدول فيقول له ما موقفك من الدولة المجاورة لكم ـ وهو يقصد دولة معادية للإسلام وأهله وتحاربه ـ فيقول هذا المسلم نحن لا خلاف بيننا ونحن جيران، وليس بيننا إلا كل تعاون على الخير والمصالح المشتركة ونحو ذلك، وهو يقول ذلك من باب السياسة، لأنه لو صرح لهم بموقفه لما تمكن من رئاسة الدولة.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالكذب من الأخلاق الضارة الذميمة المشينة لصاحبها، ولا شك ولا خلاف في حرمته من حيث الأصل، ولكن قد تعرض بعض حالات الضرورة أو المصلحة الراجحة التي يجوز فيها الكذب، كما في حديث أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ـ وكانت من المهاجرات الأول اللاتي بايعن النبي صلى الله عليه وسلم ـ أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس ويقول خيرا وينمي خيرا، قال ابن شهاب: ولم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها. رواه مسلم.
قال النووي: قال القاضي: لا خلاف في جواز الكذب في هذه الصور، واختلفوا في المراد بالكذب المباح فيها ما هو؟ فقالت طائفة: هو على إطلاقه، وأجازوا قول ما لم يكن في هذه المواضع للمصلحة، وقالوا: الكذب المذموم ما فيه مضرة، واحتجوا بقول إبراهيم صلى الله عليه وسلم: بل فعله كبيرهم، و: إني سقيم ـ وقوله: إنها أختي، وقول منادي يوسف صلى الله عليه وسلم: أيتها العير إنكم لسارقون ـ قالوا: ولا خلاف أنه لو قصد ظالم قتل رجل هو عنده مختف وجب عليه الكذب في أنه لا يعلم أين هو، وقال آخرون منهم الطبري: لا يجوز الكذب في شيء أصلا، قالوا: وما جاء من الإباحة في هذا، المراد به التورية واستعمال المعاريض لا صريح الكذب، مثل أن يعد زوجته أن يحسن إليها ويكسوها كذا وينوي إن قدر الله ذلك، وحاصله أن يأتي بكلمات محتملة يفهم المخاطب منها ما يطيب قلبه، وإذا سعى في الإصلاح نقل عن هؤلاء إلى هؤلاء كلاما جميلا ومن هؤلاء إلى هؤلاء كذلك وورَّى، وكذا في الحرب بأن يقول لعدوه: مات إمامكم الأعظم، وينوي إمامهم في الأزمان الماضية، أو: غدا يأتينا مدد، أي طعام، ونحوه، هذا من المعاريض المباحة فكل هذا جائز، وتأولوا قصة إبراهيم ويوسف وما جاء من هذا على المعاريض. اهـ.
وقد سبق لنا بيان أن في المعاريض مندوحة عن الكذب، فراجع الفتويين رقم: 7758، ورقم: 68919.
كما سبق لنا اختصار حكم الكذب بين الحرمة والإباحة والوجوب في الفتوى رقم: 158075.
والذي ينبغي التنبيه عليه في موضوع هذا السؤال هو أن المصلحة التي يورِّي المرء ويُعَرِّض لأجلها قد تكون متوهمة وقد تكون مرجوحة، وقد تكون راجحة، فالعلم بذلك هو الذي يحتاج إلى السداد وحسن النظر ومراعاة مقاصد الشرع سواء في إظهار أحكامه، حفظا للدين، أو في مراعاة معاش الناس ومصالحهم، حفظا للدماء والأعراض والأموال، فالأمر يحتاج إلى علم راسخ، وبصر نافذ، وتشاور دائم.
والله أعلم.