الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالأصل: تعظيم المساجد ورعاية حرمتها وتنزيهها عن كل ما لا يليق بها ـ من اللغو والباطل واللعب ونحو ذلك ـ وقد قال الله تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ. { النور: 36 }.
قال القاسمي: قال السيوطي في الإكليل: في هذه الآية الأمر بتعظيم المساجد وتنزيهها عن اللغو والقاذورات وفيها استحباب ذكر الله والصلاة في المساجد. انتهى.
ودلائل وجوب احترام المساجد وتعظيمها كثيرة، فما يفعله هؤلاء الشباب مناف لما أمرنا الله تعالى به من صيانة المساجد وتعظيمها، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بعدم التشويش على المصلي ولو بقراءة القرآن فكيف بالتشويش عليه باللعب المنافي لتعظيم المسجد؟.
وأما ما استدلوا به من قصة لعب الحبشة في المسجد: فالدليل صحيح، والاستدلال غير صحيح، فإن العلماء ـ رحمهم الله ـ اختلفوا في الوجه الذي يحمل عليه هذا الحديث ليجمع بينه وبين الأدلة الدالة على صيانة المساجد فمنهم من ذهب إلى أن هذا الحديث منسوخ. ومنهم من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أذن لهم في اللعب تأليفا لقلوبهم على الإسلام، فإن ذلك إنما نقل من فعل الأحباش في يوم عيد ولم يفعله كبار الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ فدل على أن الرخصة فيه ليست عامة. ومنهم من قال: إن لعبهم كان في رحبة المسجد وأطلق لعبهم في المسجد على جهة المجاز.
وقال كثير منهم إنه إنما أذن لهم في ذلك لما في لعبهم بالحراب من التقوي على أمر الجهاد فهو من الامتثال لقوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ.{ الأنفال: 60 }.
فليس هو لعبا مجردا، وإنما هو لعب لتحقيق مقصود شرعي وهو التقوي والتمرن على أمر الجهاد.
وبكل تقدير، فاستدلالهم هذا في غير محله، فالواجب عليهم أن يتقوا الله تعالى، ويجتنبوا ما يفعلونه مما ينافي حرمة المسجد ويتأذى به المصلون، وهاك بعض كلام العلماء في هذا الحديث يتبين به ما ذكرناه، قال الحافظ في الفتح: قوله: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما في باب حجرتي والحبشة يلعبون في المسجد. فيه جواز ذلك في المسجد، وحكى ابن التين عن أبي الحسن اللخمي: أن اللعب بالحراب في المسجد منسوخ بالقرآن والسنة: أما القرآن فقوله تعالى: في بيوت أذن الله أن ترفع. وأما السنة فحديث: جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم. وتعقب بأن الحديث ضعيف وليس فيه ولا في الآية تصريح بما ادعاه، ولا عرف التاريخ فيثبت النسخ.
وحكى بعض المالكية عن مالك: أن لعبهم كان خارج المسجد وكانت عائشة في المسجد، وهذا لا يثبت عن مالك، فإنه خلاف ما صرح به في طرق هذا الحديث، وفي بعضها أن عمر أنكر عليهم لعبهم في المسجد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: دعهم. واللعب بالحراب ليس لعبا مجردا، بل فيه تدريب الشجعان على مواقع الحروب والاستعداد للعدو.
وقال المهلب: المسجد موضوع لأمر جماعة المسلمين، فما كان من الأعمال يجمع منفعة الدين وأهله جاز فيه. انتهى.
وقال القاري في المرقاة: والحبشة يلعبون ـ الجملة حالية، بالحراب بكسر الحاء ـ جمع الحربة وهي: رمح قصير في المسجد، أي في رحبة المسجد المتصلة به وكانت تنظر إليهم من باب الحجرة وذلك من داخل المسجد فقالت في المسجد لاتصال الرحبة به أو دخلوا المسجد لتضايق الموضع بهم، وإنما سومحوا فيه، لأن لعبهم بالحراب كان يعد من عدة الحرب مع أعداء الله تعالى فصار عبادة بالقصد كالرمي، قال تعالى جل جلاله: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة. انتهى.
وقال الشيخ ابن عثيمين في كتابه في الأصول: إقراره الحبشة يلعبون في المسجد من أجل التأليف على الإسلام. انتهى.
وعلى جميع التقديرات، فإن لعبهم لم يكن ـ قطعا ـ في وقت الصلاة، وبالتالي فليس فيه دليل على جواز اللعب الذي يترتب عليه تشويش على المصلين.
والله أعلم.