السؤال
لقد قرأت بعض أقوال ابن تيمية ومنها: أنه قال: إن من آذى النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يعلم من غير استحضار فيجب أن يؤدب وينهى عن ذلك، أما من آذاه وهو مستحضر لذلك عالم به فهو كافر خارج عن الملة.
وسؤالي هو: نحن نعلم أن المعاصي ـ وكما يقول ابن تيمية في موضع آخر ـ هي من إيذاء الله ورسوله: فهل يعني ذلك أن من ارتكب معصية من الصغائر أو الكبائر كالزنا والسرقة مثلا وهو مستحضر أن ذلك إيذاء لله ورسوله عالم به، يعد كافرا خارجا عن الملة؟.
نرجو التوضيح.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد ألف شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ كتابه الفذ: الصارم المسلول على شاتم الرسول ـ ليبين كفر أو ردة من فعل ذلك ووجوب قتله، ومما قال فيه: وأما الآيات الدالات على كفر الشاتم وقتله، أو على أحدهما إذا لم يكن معاهدا ـ وإن كان مظهرا للإسلام ـ فكثيرة، مع أن هذا مجمع عليه، كما تقدم حكاية الإجماع عن غير واحد. انتهى.
وذكر ستة منها، ثم قال: الدليل السابع على ذلك قوله سبحانه: لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَليِمٌ.
وفسر الفتنة بالردة والكفر، ثم بين وجه الدلالة فقال: فإذا كان المخالف عن أمره قد حذر من الكفر والشرك، أو من العذاب الأليم، دل على أنه قد يكون مفضيا إلى الكفر أو العذاب الأليم، ومعلوم أن إفضاءه إلى العذاب هو مجرد فعل المعصية، فإفضاؤه إلى الكفر إنما هو لما قد يقترن به من استخفاف بحق الآمر، كما فعل إبليس فكيف لما هو أغلظ من ذلك؟ كالسب والانتقاص ونحوه، هذا باب واسع، مع أنه ـ بحمد الله ـ مجمع عليه، لكن إذا تعددت الدلالات تعاضدت على غلظ كفر الساب وعظم عقوبته، وظهر أن ترك الاحترام للرسول صلى الله عليه وسلم وسوء الأدب معه مما يخاف الكفر المحبط كان ذلك أبلغ فيما قصدنا له، ولا يرد على هذا قوله تعالى: لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ.
فإن المؤذي له هنا إطالتهم الجلوس في المنزل واستئناسهم للحديث، لا أنهم آذوا النبي صلى الله عليه وسلم والفعل إذا آذى النبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يعلم صاحبه أنه يؤذيه ولم يقصد صاحبه أذاه، فإنه ينهى عنه ويكون معصية، كرفع الصوت فوق صوته، فأما إذا قصد أذاه وكان مما يؤذيه وصاحبه يعلم أنه يؤذيه وأقدم عليه مع استحضار هذا العلم فهذا الذي يوجب الكفر وحبوط العمل. انتهى.
وكلامه بيّن واضح، لا لبس فيه ولا إشكال، وليتأمل السائل الكريم قوله ـ رحمه الله: ومعلوم أن إفضاءه إلى العذاب هو مجرد فعل المعصية، فإفضاؤه إلى الكفر إنما هو لما قد يقترن به من استخفاف بحق الآمر، كما فعل إبليس.
فهو جلي في التفريق بين مجرد فعل المعصية وبين اقتران ذلك بما يفضي إلى الكفر كالاستخفاف بالآمر فالمعاصي كلها وإن كان فيها نوع أذية لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، كما سبق بيان ذلك في الفتوى رقم: 75667، إلا أنها ليست كفرا بمجردها، وقد قال شيخ الإسلام في موضع آخر من الكتاب نفسه ـ الصارم المسلول: المؤمن الذي يحب الله ورسوله ليس على الإطلاق بمحاد لله ورسوله، كما أنه ليس على الإطلاق بكافر ولا منافق، وإن كانت له ذنوب كثيرة، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لنعيمان وقد جلد في الخمر غير مرة: إنه يحب الله ورسوله، لأن مطلق المحادة يقتضي مطلق المقاطعة والمصارمة والمعاداة والمؤمن ليس كذلك، لكن قد يقع اسم النفاق على من أتى بشعبة من شعبه ولهذا قالوا: كفر دون كفر ـ وظلم دون ظلم ـ وفسق دون فسق.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: كفر بالله من تبرأ من نسب وإن دق.
ومن حلف بغير الله فقد أشرك.
وآية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان.
وقال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه. انتهى.
وراجع للمزيد من الفائدة الفتويين رقم: 46720، ورقم: 50018.
والله أعلم.