الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد سبق أن بينا في الفتوى رقم: 16870أن جماهير أهل العلم من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وعلماء اللغة والبيان يقولون بوجود المجاز في اللغة وفي القرآن والسنة. وبينا طرفا من حجج القائلين بمنعه وجوابها.
وقبل الإجابة على خصوص ما سأل عنه السائل الكريم نود أن نلفت انتباهه إلى مسألتين:
ـ الأولى أن لفظ الآية الكريمة: (يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ) لا :يضعون أصابعهم.
ـ الثانية: أن أهل العلم إذا اختلفوا في مسألة، وترجَّح للمرء فيها أحد أقوالهم إذا كان أهلا للترجيح، فهذا لا يعني بطلان ما عداه، فالأمر نسبي، ولذلك فالعالم الواحد يتغير اجتهاده في المسألة الواحدة بحسب ما يظهر له من الأدلة أو من دلالاتها، والمهم أن يلتزم الجميع بالمنهج الحق في الاستدلال والتلقي، بالاعتماد على الكتاب والسنة وعدم الخروج على ما أجمع عليه سلف الأمة.
ولذلك فإنا نرى أسلوب السائل الكريم في تناول قول من قال بمنع المجاز من أهل العلم ـ غير لائق ولا سائغ، وفيه قصور واضح في فهم وجهة هذا القول، وفي الاطلاع كذلك على كلام أهل العلم من المفسرين وغيرهم، ويرجى من السائل الكريم مراجعة الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 76964، 4402، 11967.
أما بخصوص ما ذكره السائل الكريم في قوله تعالى: يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ. {البقرة : 19} فإن المانعين من المجاز لم يقولوا: (إنهم وضعوا أصابعهم كلها) على حد قول السائل. ولفهم مذهبهم لابد أن يعلم السائل أن من أنكر المجاز انطلق من قاعدة أن المعنى المراد يعرف ابتداءً بقرينة السياق، فيعول دائما عليه؛ لأنه يدل على المعنى المراد من اللفظ بلا كلفة عقلية، وأن مردَّ ذلك إلى استعمال اللسان لا إلى قوانين المجاز العقلية.
يقول ابن القيم ـ وهو من منكري المجاز ـ في معرض حجاج مثبتي المجاز، كما في مختصر الصواعق المرسل: إنكم فرقتم أيضا بينهما (أي بين الحقيقة والمجاز) بأن المجاز ما يتبادر غيره إلى الذهن، فالمدلول إن تبادر إلى الذهن عند الإطلاق كان حقيقة، وكان غير المتبادر مجازا، فإن الأسد إذا أطلق تبادر منه الحيوان المفترس دون الرجل الشجاع. فهذا الفرق مبني على دعوى باطلة وهي تجريد اللفظ عن القرائن بالكلية والنطق به وحده وحينئذ يتبادر منه الحقيقة عند التجرد. وهذا الفرض هو الذي أوقعكم في الوهم فإن اللفظ بدون القيد والتركيب بمنزلة الأصوات التي ينعق بها لا تفيد فائدة، وإنما يفيد تركيبه مع غيره تركيبا إسناديا يصح السكوت عليه، وحينئذ فإنه يتبادر منه عند كل تركيب بحسب ما قيد به فيتبادر منه في هذا التركيب ما لا يتبادر منه في هذا التركيب الأخير. اهـ.
وعلى ذلك فقرينة أن الآذان لا تستوعب الأصابع تدل على أن حقيقة الأصابع المذكورة في الآية إنما هي أطرافها أي الأنامل، والنكتة البلاغية في ذلك هي الإشارة إلى أن إدخالهم لأناملهم كان على غير المعتاد، مبالغة في الفرار.
قال الشيخ ابن عثيمين: قيل: إن في الآية مجازاً من وجهين؛ الأول: أن الأصابع ليست كلها تجعل في الأذن. والثاني: أنه ليس كل الأصبع يدخل في الأذن. والتحقيق أنه ليس في الآية مجاز؛ أما الأول: فلأن "أصابع" جمع عائد على قوله تعالى: { يجعلون }، فيكون من باب توزيع الجمع على الجمع، أي يجعل كل واحد منهم أصبعه في أذنه. وأما الثاني: فلأن المخاطَب لا يمكن أن يفهم من جعْل الأصبع في الأذن أن جميع الأصبع تدخل في الأذن؛ وإذا كان لا يمكن ذلك امتنع أن تحمل الحقيقة على إدخال جميع الأصبع؛ بل الحقيقة أن ذلك إدخال بعض الأصبع؛ وحينئذ لا مجاز في الآية؛ على أن القول الراجح أنه لا مجاز في القرآن أصلاً؛ لأن معاني الآية تدرك بالسياق؛ وحقيقة الكلام ما دلّ عليه السياق، وإن استعملت الكلمات في غير أصلها. اهـ.
وقد ذكر الشيخ الشنقيطي ـ وهو من أشهر المعاصرين المانعين من المجاز ـ في رسالته منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز قاعدة نفيسة خرَّج بها الآيات التي احتج بها المجوزون لوقوع المجاز في القرآن، هي أن : كل ما يسميه القائلون بالمجاز مجازا فهو عند من يقول بنفي المجاز أسلوب من أساليب اللغة العربية.
فنوصي السائل الكريم بقراءة هذه الرسالة لاستيضاح مذهب المانعين، وكذلك نوصيه بقراءة الفصل الرابع والعشرين من كتاب (الصواعق المرسلة) فقد ذكر فيه ابن القيم الطواغيت الأربع التي هدم بها أصحاب التأويل الباطل معاقل الدين وانتهكوا بها حرمة القرآن ومحوا بها رسوم الإيمان. فكان الطاغوت الثاني منها: قولهم إن آيات الصفات وأحاديث الصفات مجازات لا حقيقة لها.
وأما قوله تعالى: فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا. {الأنبياء: 91}. فقد أبعد السائل النجعة في فهمه، فلم يقل المانعون من المجاز ولا غيرهم إن حقيقتها أن الله جل وعلا نفخ فيها من روحه الخاصة به على حد قول السائل. فإن الروح في هذه الآية إنما هو جبريل الذي سماه القرآن: الروح الأمين، كما في قوله سبحانه: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. {الشعراء: 193}.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهو من القائلين بمنع المجاز: المسيح خلق من أصلين: من نفخ جبريل، ومن أمه مريم ... فلما نفخ فيها جبريل حملت به؛ ولهذا قيل في المسيح: وَرُوحٌ مِّنْهُ. [ النساء: 171 ]. باعتبار هذا النفخ. وقد بين اللّه ـ سبحانه ـ أن الرسول الذي هو روحه، وهو جبريل، هو الروح الذي خاطبها، وقال: { إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا }. فقوله { فَنَفَخْنَا فِيهَا } [ الأنبياء : 91 ] أو : { فِيهِ مِن رُّوحِنَا } [ التحريم : 12 ] أي : من هذا الروح الذي هو جبريل. اهـ.
أي النفخ حصل بواسطة جبريل فإن الله بعثه إليها فتمثل لها بشرا سويا وأمره أن ينفخ بفيه...
والله أعلم.