الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن معرفة الأحكام الشرعية مردها إلى أهل العلم بالشرع الراسخين فيه، لقوله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ. {النحل:43}.
إذا وضح هذا، فاعلمي أن الأصل في الدم الذي يُصيب المرأة أنه دمُ حيض لا دمُ استحاضة، لأن الأصل الصحة لا الفساد والعلة، ولا يحكم بأن الدمَ الذي تراه المرأة دمُ استحاضة حتى يتجاوز أكثر مدة الحيض، وهي خمسة عشر يوماً عند الجمهور، فما دام هذا الدمُ لم يتجاوز خمسة عشر يوماً، فإنك لا تزالين حائضا، وإذا كان الدمُ يتقطع كما ذكرتِ، فالواجبُ عليك إذا انقطع الدمُ أن تغتسلي وتصلي، فإذا عاد عدتِ حائضا وهكذا حتى يصير مجموع تلك الأيام خمسة عشر يوماً، فإذا تجاوز مجموع تلك الأيام خمسة عشر يوماً فحينها يُحكم بأنك مستحاضة.
وزيادة للبيان نقول: مذهبُ الشافعية أن المرأة إذا جاوز دمها مُدة العادة فهو حيضٌ ما لم يعبر أكثر الحيض، وهو خمسة عشر يوماً، فإذا تجاوزها تبين أن المرأة مُستحاضة، فإن كان لها تمييزٌ صالح عملت به، وإلا فترجعُ إلى عادتها إن كانت لها عادةٌ سابقة، وما زاد عليها فهو استحاضة، فتقضي صلاة تلك الأيام التي تركت صلاتها ظانة وجود الحيض.
قال النووي في المجموع: وإن جاوز خمسة عشر علمنا أنها مستحاضة، فيجب عليها أن تغتسل، ثم إن كانت غير مميزة ردت إلى عادتها، فيكون حيضها أيام العادة في القدر والوقت وما عدا ذلك فهو طهر تقضي صلاته. انتهى.
ويرى الحنابلة أن دم المرأة إذا جاوز عادتها فهي مستحاضة تغتسل، وتصلي وتصوم، وتغتسلُ بعد انقطاع الدم، وتقضي الصوم احتياطا، وإن جاوز دمها أكثر الحيض رجعت إلى عادتها فجلستها فيما يُستقبل من الشهور، فإن لم تكن لها عادة عملت بالتمييز الصالح، وإلا فتجلسُ غالب الحيض، وذهب جمعٌ من محققي الحنابلة إلى القول الأول، وهو أن الدم إن جاوز العادة كان حيضا، تترك المرأة فيه الصوم والصلاة ما لم يُجاوز أكثر الحيض.
جاء في الروض المربع مع حاشية ابن قاسم: (ومن زادت عادتها) مثل أن يكون حيضها خمسة من كل شهر فيصير ستة (أو تقدمت) مثل أن تكون عادتها من أول الشهر فتراه في آخره (أو تأخرت) عكس التي قبلها.
(فما تكرر) من ذلك (ثلاثا) فهو (حيض) ولا تلتفت إلى ما خرج عن العادة قبل تكرره، كدم المبتدأة الزائد على أقل الحيض، فتصوم فيه وتصلي قبل التكرار، وتغتسل عند انقطاعه ثانيا، فإذا تكرر ثلاثا صار عادة، فتعيد ما صامته ونحوه من فرض، وعنه: تصير إليه من غير تكرار، وتدع الصلاة ونحوها، أومأ إليه في رواية ابن منصور، واختاره الشيخ والموفق وجمع، قال في الإنصاف: وهو الصواب، قال ابن عبيدان: وهو الصحيح، قال في الفائق: وهو المختار، وعليه العمل، ولا يسع النساء العمل بغيره، قال في الاختيارات: والمنتقلة إذا تغيرت عادتها بزيادة أو نقص أو انتقال فذلك حيض حتى تعلم أنها استحاضته باستمرار الدم. انتهى.
والخلاصة: أنه إذا تبين أن المرأة مستحاضة بأن تجاوز دمها خمسة عشر يوماً، فإنها إن كانت مُعتادة جلست عادتها، ثم اغتسلت بعد انقضائها، ويلزمها بعد ذلك أن تتوضأ لكل صلاة بعد دخول وقتها، وتتحفظ بشد خرقة على الموضع.
وإن لم تكن معتادة وكانت مميزة عملت بتمييزها الصالح، فما ميزته حيضاً بصفته من لون، وريح، وغلظ عدته حيضا، فتغتسل بعد انقضائه، وما عداه فهو استحاضة. ويرى الشافعية تقديم التمييز على العادة، ويرى الحنابلة تقديم العادة على التمييز.
ثم إن لم تكن المرأة معتادة ولا مميزة جلست غالب عادة النساء من أهلها ستة أيام أو سبعة فتغتسلُ بعد انقضائها، وما زاد فهو استحاضة، وقد بينا هذه الأحكام في فتاوى كثيرة، وانظري الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 113053، 115704، 99900، 103261، 120787، 118286.
وعليه، فالواجبُ عليكِ هو ترك الصلاة إذا رأيتِ الدم ما لم تُجاوز مدته خمسة عشر يوما، فإذا رأيت الطهر في أثنائها اغتسلت وصليت، لقول ابن عباس رضي الله عنهما: ولا يحل لها إذا رأت الطهر ساعة إلا أن تغتسل. أخرجه أبو داود.
فإذا عاد الدمُ عُدت حائضا حتى يتجاوز مجموع تلك الأيام خمسة عشر يوما، فإذا تجاوزها حكمنا بأنكِ مُستحاضة فتفعلين ما تقدم ذكره.
والذي فهمناه من السؤال أنك لم يستمر بك تقطع الدم حتى جاوز خمسة عشر يوما، ومن ثم فكل الدماء التي رأيتها حيض، وأيام النقاء المتخلل بين الدماء اختلف العلماء فيها هل هي طهر أو حيض؟ ولذا فإن الأيام التي قطعتِ فيها الصلاة إن كان مع وجود الدم، فلا شيء عليكِ فيها، لأنكِ فعلتِ ما يجبُ عليكِ، فإن الحائض ممنوعة من الصلاة إجماعاً، وكذا إذا كنتِ قد رأيت الطهر في خلال تلك المدة فلم تغتسلي حتى عاد الدم فلا شيء عليك أيضا عند من يقول بأن النقاء المتخلل حيض، لكن الأحوط أن تحسبي تلك الصلوات وتقضيها عملا بقول من قال إن ما بين الدمين طهر تجبُ الصلاة فيه على المرأة لما قدمناه من قول ابن عباس رضي الله عنهما، وإذا استمر نزول الدم حتى تجاوز خمسة عشر يوماً، وثبت كونكِ مُستحاضة، فإنكِ تغتسلين، وتتحفظين، وتتوضئين لكل صلاة على ما ذكرنا، وتقضين صلاة الأيام الزائدة على أيام عادتكِ أو تمييزك الصالح على ما بينا.
والله أعلم