الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الشؤم في الدار والمرأة والفرس. وفي رواية: إن كان الشؤم في شيء ففي الفرس والمسكن والمرأة. متفق عليه.
وقد اختلف العلماء في هذا الحديث فقال مالك وطائفة: هو على ظاهره، وأن الدار قد يجعل الله تعالى سكناها سببا للضرر والهلاك بقضاء الله تعالى. وقال الخطابي وكثيرون: هو في معنى الاستثناء من الطيرة، أي الطيرة منهي عنها إلا أن يكون له دار يكره سكناها، أو امرأة يكره صحبتها، أو فرس، أو خادم فليفارق الجميع. كما في شرح النووي لصحيح مسلم.
وعلى هذا؛ فلا بأس بالانتقال من الدار أو المحِلة التي يتضرر بها أهلها، ولكن ليعلم أنه إن كان في بعض الديار شؤم فهو بتقدير الله وبحكمته قدر ذلك، ولا يجوز للمسلم أن يعتقد أن هذه الأشياء تؤثر بذاتها، لأن ذلك نوع من الشرك الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: الطيرة شرك. رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي وأحمد، وصححه الألباني. كما سبق بيانه في الفتويين رقم: 25602، 61432.
وقد جاء في السنة ما يؤيد هذا الانتقال، فعن أنس بن مالك قال: قال رجل: يا رسول الله إنا كنا في دار كثير فيها عددنا وكثير فيها أموالنا، فتحولنا إلى دار أخرى فقل فيها عددنا وقلت فيها أموالنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذروها ذميمة. رواه أبو داود، وحسنه الألباني.
وقال القرطبي في المفهم: ولا يظن بمن قال هذا القول أن الذي رخص فيه من الطيرة بهذه الأشياء الثلاثة هو على نحو ما كانت الجاهلية تعتقد فيها وتفعل عندها، فإنَّها كانت لا تقدم على ما تطيرت به ولا تفعله بوجه، بناء على أن الطيرة تضر قطعًا، فإنَّ هذا ظن خطأ، وإنما يعني بذلك أن هذه الثلاثة أكثر ما يتشاءم الناس بها لملازمتهم إياها، فمن وقع في نفسه شيء من ذلك فقد أباح الشرع له أن يتركه ويستبدل به غيره مما تطيب به نفسه ويسكن له خاطره، ولم يُلزمه الشرع أن يقيم في موضع يكرهه أو مع امرأة يكرهها.
بل قد فسح له في ترك ذلك كله، لكن مع اعتقاد أن الله تعالى هو الفعَّال لما يريد، وليس لشيء من هذه الأشياء أثر في الوجود، وهذا على نحو ما ذكرناه في المجذوم. فإن قيل: فهذا يجري في كل متطير به، فما وجه خصوصية هذه الثلاثة بالذكر؟ فالجواب: ما نبَّهنا عليه من أن هذه ضروريَّة في الوجود، ولا بدَّ للإنسان منها ومن ملازمتها غالبًا، فأكثر ما يقع التشاؤم بها؛ فخصَّها بالذكر لذلك. فإنَّ قيل: فما الفرق بين الدار وبين موضع الوباء، فإنَّ الدار إذا تطير بها، فقد وسع في الارتحال عنها، وموضع الوباء قد منع من الخروج منه؟! فالجواب: ما قاله بعض أهل العلم: إن الأمور بالنسبة إلى هذا المعنى ثلاثة أقسام:
أحدها: ما لم يقع التأذي به ولا اطَّردت عادة به خاصة ولا عامَّة، لا نادرة ولا متكررة؛ فهذا لا يصغى إليه وقد أنكر الشرع الالتفات إليه، كلقي غراب في بعض الأسفار أو صراخ بومة في دار.
وثانيها: ما يقع به الضرر، ولكنه يعمُّ ولا يخص، ويندر ولا يتكرر كالوباء، فهذا لا يقدم عليه عملاً بالحزم والاحتياط، ولا يُفَرُّ منه لإمكان أن يكون قد وصل الضَّرر إلى الفارِّ فيكون سفره زيادة في محنته وتعجيلاً لهلكته، كما قدمناه، ونحن نضيف هنا سبباً جديداً وهو نقل المرض من مكان الوباء إلى مكان آخر.
وثالثها: سببٌ يخص ولا يعم، ويلحق منه الضرر طول الملازمة كالدار والفرس والمرأة، فيباح له الاستبدال والتوكل على الله تعالى، والإعراض عما يقع في النفوس منها من أفضل الأعمال. انتهى.
وقال المناوي: يعني هذه الثلاثة يطول تعذيب القلب بها مع كراهتها بملازمتها بالسكنى والصحبة ولو لم يعتقد الإنسان الشؤم فيها، فأشار بالحديث إلى الأمر بفراقها إرشاداً ليزول التعذيب. انتهـى.
وخلاصة القول أن السائلة الكريمة إن وقع في نفسها شيء من هذا المكان فلها أن تختار مكانا غيره للبناء عليه، ففي المعجم الوسيط: الدار: المحل يجمع البناء، والساحة، والمنزل المسكون، والبلد، والقبيلة.انتهى.
وقال القرطبي في المفهم: قد يصح حمله على أعم من ذلك، فيدخل فيه الدكان والفندق وغيرهما مما يصلح له. انتهى.
وأما مسألة الأرض المنخفضة والوديان وهل لذلك علاقة بالجن؟ فلا نعلم لذلك أصلا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: الجن ثلاثة أصناف: فصنف لهم أجنحة يطيرون بها في الهواء، وصنف حيات وكلاب، وصنف يحلون ويظعنون. رواه الطبراني والحاكم، وصححه الألباني.
وقد سبق ذكر إرشادات تعصم من سكن الجن داره في الفتوى رقم: 19231. وانظري للمزيد من الفائدة الفتوى رقم: 72036.
والله أعلم.