منذ عقود من الزمن شكلت "إسرائيل" نوعاً من دولة استثنائية في العلاقات الدولية، فرغم كونها دولة صغيرة، بعدد السكان والمساحة والقدرات، إلا أنها تتمتع بعلاقات دولة كبرى على الصعيد الدولي. ورغم اعتمادها على الولايات المتحدة، أمنياً وسياسياً واقتصادياً وتكنولوجيا، إلا أن الإدارات الأميركية تحسب لها حساباً ربما يفوق حسابها مع كثير من الدول الكبرى.
ومنذ قيامها (1948) نشأت "إسرائيل" كدولة اغتصاب واحتلال، حيث اقتطعت، بالقوة العسكرية، مساحات واسعة من الأراضي المخصصة للدولة الفلسطينية، بحسب قرار التقسيم رقم 181، ثم إنها قامت باحتلال باقي الأراضي -الضفة والقطاع- في حرب يونيو 1967، ومع ذلك فهي ترفض أن ينظر لها باعتبارها قوة احتلال، رغم مقاومة الشعب الفلسطيني لها. هكذا تبدو "إسرائيل" استثناءً بين دول العالم ، بالرغم من أنها تتجلّى كل يوم على شكل دولة استعمارية وعنصرية ودينية!.
ويمكن ملاحظة الاستثناء الإسرائيلي في عدد من المفارقات، التي حاولت "إسرائيل" ترسيخها في الواقع الثقافي والسياسي الدولي، والتي من ضمنها:
أولاً، تعريفها لذاتها، باعتبارها دولة يهودية وديمقراطية، في آن واحد. البديهي أن هذا التعريف ينطوي على تناقض بيّن؛ إذ لا يمكن أن تكون دولة ما ديمقراطية في وقت تفتقد فيه لعنصر المساواة بين مواطنيها. فإسرائيل تعتبر نفسها دولة يهودية ما يعني أن مواطنيها غير اليهود لا يتمتعون بحقوق اليهود.
والأنكى أن هذا التمييز ضد مواطنيها العرب لا يتم بينهم وبين اليهود الإسرائيليين، فقط، وإنما يشمل اليهود في شتى أنحاء العالم. هكذا فإن "إسرائيل" هي الدولة الوحيدة التي لا تتطابق فيها حدود الهوية مع حدود المواطنة، بقدر ارتباطها بحدود الدين، الذي تحول إلى قومية!.
وهكذا فإن العربي المواطن في "إسرائيل" لا يتمتع بحقوق اليهودي، سواء كان من مواطنيها أم لم يكن! على ذلك فإن الديمقراطية الإسرائيلية هي ديمقراطية تمييزية، باعتبار أنها تنطبق عملياً على مجتمع المستوطنين اليهود فقط، وبالتالي فإن "إسرائيل" هي دولة عنصرية بامتياز، لأنها تميّز بين سكانها على أساس من الدين و«القومية». ويزيد من وقع هذا الأمر احتلال "إسرائيل" للضفة والقطاع ومحاولتها السيطرة على الفلسطينيين في هذه الأراضي ومصادرة حقوقهم وحريتهم بوسائل القوة.
ثانياً، دأبها على انتزاع اعتراف العالم بواقع كونها دولة يهودية، بدعوى أن «اليهودية» بالنسبة لها هي مجرد هوية ثقافية وقومية! ولا شك أن "إسرائيل" في كل ذلك تحاول تبرير ذاتها، عبر التحايل على قوانين تطور المجتمعات والقوميات...
ثالثاً، محاولاتها التغطية على طبيعتها كدولة دينية - يهودية بالادعاء أنها دولة علمانية في محاولة للمراوغة في اتجاهين: داخلي، ويشمل استقطاب يهود العالم باتجاهاتهم العلمانية والدينية، وخارجي، باعتبار ذاتها جزءاً من المنظومة الحضارية الغربية - العلمانية في هذه المنطقة.
ولكن مشكلة "إسرائيل" أنها لا تستطيع التغطية على واقع كونها دولة دينية، يتمتع «الأصوليون» فيها بنوع من «الفيتو»، لاسيما في شؤون الأحوال المدنية، كما يتمتعون بنفوذ كبير، في ميزان المفاضلة بين قيمة الديني والدنيوي، في مختلف المجالات. وفوق ذلك فإن "إسرائيل" ذاتها قامت على أساس الأسطورة الدينية اليهودية (أرض الميعاد)، وعلى اعتبار أن المعيار الديني هو مرتكز الهوية والقومية.
رابعاً، تبريرها الحرص على ضمان تفوقها في المجال العسكري التقليدي ولاحتكارها التسلح النووي في المنطقة. وفي ذلك تدّعي "إسرائيل" أنها دولة صغيرة في محيط معادٍ لها يستهدف وجودها. المعروف أن "إسرائيل" تخصّص حوالي عشرة مليارات من الدولارات لنفقات الدفاع (بنسبة 16 بالمئة من الموازنة الحكومية و10 بالمئة من الناتج السنوي المحلي)، في حين أنها تطالب بالحدّ من قدرات الدول العربية في مجال التسلح؛ علما أن مخصصات الدفاع في الدول العربية، المجاورة لها لا تتجاوز 6,7 مليار دولار!
وبينما تطالب "إسرائيل" بمنع وجود أي نوع من أسلحة الدمار الشامل، في الشرق الأوسط (وفي مجمل العالم الإسلامي)، مهما كان حجمه أو قدراته، تبرّر هي لنفسها امتلاك أكثر من 200 قنبلة نووية، إضافة إلى غيرها من الأسلحة الكيماوية والبيولوجية! الواضح أن "إسرائيل" وهي تدعي أنها تدافع عن وجودها هي التي تهدد وجود الدول العربية باحتلالاتها، وباحتكارها السلاح النووي، وبسياساتها العدوانية ضد الدول العربية.
ومعنى ذلك أن مخاوف "إسرائيل" التي تبرّر بها «حقّها» في احتكار التسلح النووي والتفوق العسكري، هي مجرد ادعاءات للمراوغة على الرأي العام العالمي ومحاولة منها لتغطية نزعتها العسكرية والعدوانية في المنطقة العربية.
خامساً، حرصها على اعتبار ذاتها دولة ليهود العالم، مع ضمان حقها في تهجيرهم إليها، باعتبارها إياهم جزءاً من الشعب اليهودي! وقد هاجر إلى "إسرائيل" منذ قيامها 3 ملايين يهودي، من مختلف دول العالم، بتأثير من الدعاية الصهيونية، وبضغط من الأوضاع السياسية أو الاقتصادية التي كانوا يعانون منها في أوطانهم الأصلية، وبحكم الإغراءات والتشجيعات التي قدمت لهم. وهكذا أباحت "إسرائيل" لذاتها التدخل في شؤون الدول الأخرى.
ونصبت نفسها محامياً أو وصياً على الطوائف اليهودية المنتشرة في دول العالم، بدعوى أنها مركز اليهودية العالمية، وبأنها الملاذ الآمن لليهود في العالم، وأنها تجسيد لحلم اليهودي في العودة من المنفى، وفق الاعتبارات التوراتية! الثابت أن ادعاءات "إسرائيل" هذه أحرجت الطوائف اليهودية في العالم.
فهي وضعتهم في مجال الريبة في أوطانهم، وخلقت لديهم شعوراً من الانتماء المزدوج، وفاقم من ذلك ظهور "إسرائيل" - التي تعتبر نفسها ممثلة لمصالح اليهود- بمظهر الدولة الاستعمارية العنصرية، ما أجج من المشاعر المعادية لليهود، لدى الرأي العام العالمي، في وقت باتت فيه "إسرائيل" أخطر مكان بالنسبة لليهود في العالم!
سادسا، تغطيتها احتلالها للأراضي الفلسطينية والسورية بالاعتبارات الأمنية، وبدعوى حماية وجودها.
ــــــــــــــ
البيان20/2