تكتسب العمليات الفدائية النوعية الأخيرة في فلسطين المحتلة، التي نفذت مؤخراً ضد مواقع جيش الاحتلال الإسرائيلي في القطاع، أهمية كبيرة من عدة نواح، وتبرز في الوقت ذاته جملة من الأمور المهمة في هذه المرحلة من الصراع العربي - الإسرائيلي التي تتكثف فيها الحركة السياسية والاتصالات الدبلوماسية بعد رحيل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات لإعطاء دفع لمسار العملية التفاوضية المتوقفة.
بالنظر إلى أهمية العمليات يمكن تسجيل ما يلي:
أولاً: تعتبر العمليات الأخيرة الأقوى والأقسى في سلسلة العمليات التي قامت بها المقاومة الفلسطينية ضد جيش الاحتلال لناحية حجم الخسائر التي أوقعتها في صفوف الجنود الإسرائيليين حيث تمكنت المقاومة مثلاً في عملية رفح الأخيرة من قتل ستة جنود وجرح حوالي 13 آخرين حسب الاعترافات الإسرائيلية، فيما قتل ثلاثة جنود في عملية نوعية أواخر الشهر الماضي شرق غزة.
وسقوط هذا العدد من القتلى والجرحى إنما يصب في سياق تعزز مقدرة المقاومة على زيادة كلفة الاحتلال على نحو كبير جعل قادة الجيش الإسرائيلي يتحدثون عن حرب عصابات كلاسيكية تخاض في قطاع غزة على غرار ما جرى في جنوب لبنان.
ثانياً: أبرزت العمليات التطور النوعي في أداء المقاومة والقدرة على الوصول إلى أكثر مواقع جيش الاحتلال تحصيناً عبر حفر الأنفاق مسافة مئات الأمتار للوصول إلى مواقع جيش الاحتلال وتفجيرها مما أدى إلى سقوط هذا العدد الكبير من القتلى والجرحى في صفوف الجنود الإسرائيليين.
ومثل هذا التطور في العمل المقاوم يعكس في الوقت ذاته امتلاك المقاومة بنية عسكرية جيدة التدريب وتتمتع بقدرات مهمة في استخدام أساليب وتكتيكات شن حرب المقاومة المسلحة ضد جيش يمتلك ترسانة عسكرية ضخمة ويتحصن في مواقع عسكرية ليس من السهل الوصول إليها. وهو ما أقر به جيش الاحتلال الذي اعتبر أن هناك تطوراً نوعياً غير مسبوق في عمل المقاومة، وتوقع أن يتم تنفيذ عمليات عسكرية معقدة على غرار العمليات الأخيرة، وقرر فتح تحقيق حول عجز قيادات الاستخبارات العسكرية والجيش عن اكتشاف التحضيرات التي سبقت القيام بهذه العمليات.
ثالثا: إلحاق هزيمة معنوية كبيرة بالجيش الإسرائيلي حيث تركت هذه العمليات مضاعفات سلبية على معنويات الجنود الإسرائيليين الذين تضعف عزيمتهم ويشعرون بالعجز عن وقف المقاومة المتصاعدة ويطالبون المستوى السياسي بالانسحاب من هذا المستنقع من الاستنزاف.
ومثل هذه الهزيمة المعنوية تؤدي بالضرورة إلى نتائج معاكسة على الصعيد الفلسطيني حيث سترتفع معنويات الشعب الفلسطيني وكوادر المقاومة الذين يزدادون قناعة بعد كل عملية ناجحة بأنهم قادرون على ضرب جيش الاحتلال في أي مكان يتحصن فيه ومواجهة الجندي الإسرائيلي في قلب موقعه والاشتباك معه.
إذا كانت هذه العناصر المهمة التي اكتسبتها العمليات من الناحية العسكرية، فماذا عن الأمور التي أبرزتها في هذا التوقيت بالذات؟
1 - أكدت مدى التنسيق العملياتي بين فصائل المقاومة، خصوصاً بين فتح وحماس، وبلوغ هذا التنسيق مرحلة متقدمة، وبالتالي وجود قناعة استراتيجية بخيار المقاومة ضد الاحتلال باعتباره طريق الشعب الفلسطيني لتحرير أرضه خاصة بعد أن جرى اختبار خيار التسوية ونتائجه السلبية.
2 - توجيه رسالة واضحة للحكومة الإسرائيلية بأن "إسرائيل" وجيشها لن ينعما بالأمن والهدوء ما دام الشعب الفلسطيني لم يحصل على حقوقه، وأنه لن يكون هناك أي ثمن مقابل الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة وشمال الضفة الغربية، وأن هذا الانسحاب سيتم تحت ضغط ضربات المقاومة على غرار ما حصل في جنوب لبنان وأن المقاومة لن تتوقف وسوف تتواصل قبل هذا الانسحاب وبعده.
3 - تأكيد واضح بأن الحديث عن هدنة أو وقف لإطلاق نار ليس وارداً في تفكير حركات المقاومة، وأن هذه العملية وتلك التي سبقتها وما سيحصل في القادم من الأيام إنما تشكل رسالة لا لبس فيها إلى قيادة السلطة الفلسطينية برئاسة أبو مازن بأن فصائل المقاومة الموجودة لن تقبل بأي تنازل أو تفريط لا بالحقوق الوطنية، وفي المقدمة حق العودة، ولا بالتخلي عن المقاومة وسلاحها.
ولا شك أن هذه العمليات وإن كانت تأتي في سياق عمل المقاومة المتواصل والذي لم يتوقف ضد الاحتلال وعدوانه المتواصل على الشعب الفلسطيني وأرضه، إلا أن توقيتها جاء أيضاً بعد أن صدرت مواقف واضحة عن أبي مازن يدعو فيها إلى التخلي عن سياسة عسكرة الانتفاضة ويتمسك باتفاق أوسلو وخريطة الطريق ويعتبر أن قضية عودة اللاجئين باتت مرتبطة بالقرار الدولي والمترافقة مع نشاط ملحوظ في الحركة الدبلوماسية والسياسية لإحياء العملية التفاوضية وسط الحديث عن عقد مؤتمر دولي بعد إجراء الانتخابات الفلسطينية وفق السيناريو الأميركي.
لذلك فإن العمليات الأخيرة إنما تشكل رداً على مثل هذه السياسة ومحاولات العودة إلى النهج التفاوضي السابق الذي يصب في خدمة حكومة شارون التي تعيش مأزقاً كبيراً بفعل استمرار المقاومة والانتفاضة وتسعى بأي طريق إلى الخروج منه وهي ترى أن رحيل عرفات قد يوفر الفرصة لتحقيق هدفها هذا بما يحول دون تحول محطة الانسحاب الأحادي المزمع تنفيذه في مطلع سنة 2005 إلى هزيمة مدوية للجيش الإسرائيلي وبالتالي استمرار المقاومة في ملاحقته على غرار ما حصل بعد هزيمة العام ألفين في لبنان.
الوطن 16/1/2005