من سنن الله التي يعامل بها الطغاة الموغلين في الطغيان، أن يستدرجهم إلى العقوبة من حيث لا يشعرون، فيقربهم إلى هلاكهم شيئاً فشياً بما يفتح عليهم من زهرة الدنيا ومتاعها، فيظنون أن ذلك علامة فلاحهم، فيفرحون بما بأيديهم، ويزيدون طغيانا وظلما، فينزل عليهم الهلاك والعذاب.
معنى الاستدراج:
أصل الاستدراج: التقريب منزلة منزلة من الدرج؛ لأن الصاعد يرقى درجة درجة"، قال القسطلاني في إرشاد الساري: وأصل الاستدراج: الاستصعاد أو الاستنزال درجة بعد درجة أي نأخذهم قليلا إلى أن تدركهم العقوبة، وذلك أنهم كلما جددوا خطيئة أحدث لهم نعمة، فظنوا ذلك تقريبا من الله تعالى، وأنساهم الاستغفار. قال الحافظ بن حجر في فتح الباري في باب تفسير سورة الأعراف: قوله: "سنستدرجهم" نأتيهم من مأمنهم كقوله تعالى (فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا} قال أبو عبيدة: "الاستدراج: أن يأتيه من حيث لا يعلم ومن حيث يتلطف به حتى يغيره"
والاستدراج في علم الجدل والمناظرة كما ذكر الملا القاري في مرقاة المفاتيح: نوع من التعريض، وهو إرخاء العنان مع الخصم في المجاراة ليعثر حيث يريد تبكيته، كما فعل إبراهيم عليه السلام مع قومه.
النصوص النبوية في سنة الاستدراج:
من رحمة الله بعباده ورحمة النبي صلى الله عليه وسلم بأمته ورود التحذير من الاطمئنان للنعم مع الإعراض عن الله، وكشف هذا الأمر من إقامة الحجة على الخلق، فالنصوص من الكتاب والسنة أوضحت هذا الأمر غاية البيان، وكثر الحديث عن سنن الله في المكذبين والمترفين، الذين لم تنفع معهم الحجج ولا البينات، ولا الابتلاء بالبأساء والضراء، عندها تبدأ مرحلة الاستدراج ببسط النعم، وانفتاح أبواب الأرزاق، فيفرحوا بها، ويبدلوا نعمة الله كفرا، وعندها يأتي العذاب والهلاك.
الحديث الأول: عن عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيت الله عز وجل يعطي البعد من الدنيا، على معاصيه، ما يحب؛ فإنما هو استدراج». ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون}. [الأنعام: 44] رواه الإمام أحمد في المسند.
وقد نقل ابن الهمام عن إمام الحرمين قال: إذا سمعت بحال الكفار وخلودهم في النار فلا تأمن على نفسك؛ فإن الأمر على خطر، فلا تدري ماذا يكون، وما سبق لك في الغيب، ولا تغتر بصفاء الأوقات، فإن تحتها غوامض الآفات. نقله ابن الهمام في فيض القدير، ونقل عن علي رضي الله عنه: كم من مستدرج بالإحسان، وكم من مفتون بحسن القول فيه، وكم من مغرور بالستر عليه، وقيل لذي النون: ما أقصى ما يخدع به العبد؟ قال: بالألطاف والكرامات {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون}، وفي الحكم: خَفْ من وجود إحسانه إليك، ودوام إساءتك معه أن يكون ذلك استدراجا.
الحديث الثاني: في الصحيحين عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى لَيُمْلِي للظالم، حتى إذا أخذه لم يُفْلِتْهُ»، ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102].
ومعنى قوله "يملي للظالم" كما قال القاضي عياض في المفهم: "يطيل في مدته، ويصح، ويكثر ماله وولده ليكثر ظلمه".
قال النووي في شرح مسلم: معنى يملي: يمهل ويؤخر ويطيل له في المدة، وهو مشتق من المُلوة وهي المدة والزمان بضم الميم وكسرها وفتحها، ومعنى لم يفلته: لم يطلقه ولم ينفلت منه.
وقد يسأل سائل: ما الحكمة في إمهال الله تعالى العصاة؟ قيل: ليرى العبادُ أن العفو والإحسان أحب إليه من الأخذ والانتقام، وليعلموا غاية شفقته وبره وكرمه. قاله ابن العماد في كتاب كشف الأسرار.
الحديث الثالث: في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى يوم القيامة بالرجل السمين، فلا يزن عند اللَّه جناح بعوضة»، ثم قرأ: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105].
والشاهد في الحديث أن هذا الصنف من الناس كان مستدرجا بالنعم، ومما يدل على ذلك أنه سمين الخلقة، وكلما أحدث ذنبا حدثت له نعمة، فغرَّه ذلك من نفسه، حتى أعماه غروره عن حقيقة حاله، فقدم على الله مفلسا لا وزن له ولا كرامة.
وشواهد سنة الاستدراج والإمهال في السيرة النبوية كثيرة، ولا سيما إذا تأملنا الطغيان الذي واجهه المسلمون في العهد المكي قرابة ثلاثة عشر عاما، والمشركون يكفرون ويقتلون ويعذبون ويؤذون، وهم في سكرة العز والعلو، مفتونون بالنعم، ومستدرجون بالغلبة الظاهرة، ولم تزل الآيات تتنزل عليهم، والمثلات تقع في دراهم أو قريبا منها، فلم يردهم ذلك عن غيهم، وصرحوا بما يدل على أنهم مستدرجون كما قال تعالى عنهم: {وقَالُواْ نَحۡنُ أَكۡثَرُ أَمۡوَٰلٗا وَأَوۡلَٰدٗا وَمَا نَحۡنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ: 35]، وهذا غاية ما وصلوا إليه من الاطمئنان الزائف، فأعقبه الهلاك، والأخذ الشديد.
والشاهد في الحديث أن هذا الصنف من الناس كان مستدرجا بالنعم، ومما يدل على ذلك أنه سمين الخلقة، وكلما أحدث ذنبا حدثت له نعمة، فغرَّه ذلك من نفسه، حتى أعماه غروره عن حقيقة حاله، فقدم على الله مفلسا لا وزن له ولا كرامة.
وشواهد سنة الاستدراج والإمهال في السيرة النبوية كثيرة، ولا سيما إذا تأملنا الطغيان الذي واجهه المسلمون في العهد المكي قرابة ثلاثة عشر عاما، والمشركون يكفرون ويقتلون ويعذبون ويؤذون، وهم في سكرة العز والعلو، مفتونون بالنعم، ومستدرجون بالغلبة الظاهرة، ولم تزل الآيات تتنزل عليهم، والمثلات تقع في دراهم أو قريبا منها، فلم يردهم ذلك عن غيهم، وصرحوا بما يدل على أنهم مستدرجون كما قال تعالى عنهم: {وقَالُواْ نَحۡنُ أَكۡثَرُ أَمۡوَٰلٗا وَأَوۡلَٰدٗا وَمَا نَحۡنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ: 35]، وهذا غاية ما وصلوا إليه من الاطمئنان الزائف، فأعقبه الهلاك، والأخذ الشديد.