ثبت عنِ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه أنَّهُ قالَ: (اغدُ عالمًا أو متعلِّمًا ولا تغد إمَّعةً بين ذلك). وعنه -أيضًا- قال: (لا يكون أحدكم إمَّعة، قالوا: وما الإمَّعة يا أبا عبد الرَّحمن؟ قال: يقول: إنَّما أنا مع النَّاس، إن اهتدوا اهتديت، وإن ضلُّوا ضللت، ألَا ليوطِّن أحدكم نفسه على إن كفر النَّاس، ألا يكفر).
كما ذم علي بن أبي طالب ذلك النوع من الناس حين قسم الناس ثلاثة أقسام، قال في ثالثها: (وهمج رعاع أتباع كلِّ ناعق، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق).
إن هذا النوع من الناس لا ينتفع بكثير مما ينتفع به غيره من أصحاب الرأي والعزيمة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ارْحمُوا تُرحَمُوا، واغْفِرُوا يُغفَرْ لكُمْ، ويْلٌ لأقماعِ القولِ، ويلٌ للمُصِرِّينَ الذين يُصِرُّونَ على ما فعلُوا وهمْ يَعلمُونَ".
وأقماع القول هم الذين يَسْمعون القولَ ولا يَعْمَلون به، شَبَّههم بالأقْماعِ التي تُجعَلُ برأسِ الإناءِ الضيِّقِ حتى يُملأَ، ويُصَبُّ فيها الماءُ فيمرُّ منها إلى غَيرِها ولا يَمكُثُ فيها ولا تنتفعُ به؛ وكذلك هؤلاء -الذين يَستمِعون القولَ ولا يَعونَه ولا يَحفظونه ولا يَعملون به- يمرُّ القولُ على آذانِهم ولا يَعمَلون به.
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول اللهُ - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَكُونُوا إِمَّعَةً "، تَقولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تحْسِنُوا، وَإنْ أَسَاءُوا فَلا تَظْلِمُوا". رواه الترمذي، وقال: حديثٌ حسنٌ غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع الصغير.
قال ابن الأثير: (الإمَّعة: الذي لا رأي له، فهو يتابع كلَّ أحد على رأيه، وقيل: هو الذي يقول لكلِّ أحدٍ: أنا معك).
قَوْلُهُ (تَقُولُونَ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ) أَيْ إِلَيْنَا أَوْ إِلَى غَيْرِنَا (أَحْسَنَّا) أَيْ جَزَاءً أَوْ تَبَعًا لَهُمْ (وَإِنْ ظَلَمُوا) أَيْ ظَلَمُونَا أَوْ ظَلَمُوا غَيْرَنَا فَكَذَلِكَ نَحْنُ (ظَلَمْنَا) عَلَى وَفْقِ أَعْمَالِهِمْ أي أنا مقلد الناس في إحسانهم وظلمهم ومقتفي أَثَرَهُمْ.
قوله(وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا) والمعنى وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَى الْإِحْسَانِ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ فَأَحْسَنُوا
وقوله: (وإن أساؤوا فلا تظلموا) أي: إن أساؤوا فأحسنوا، ويحتمل أن يكون معناه -واللَّه أعلم- وإن أساؤوا فلا تعتدوا وتجاوزوا الحد.
فلا يجوز للمسلم أن يكون إمعة ينقاد لكل من يراه أو يصاحبه، بل ينبغي أن يكون ذا رأي وعزيمة، مجانبا صحبة السوء ومواطن السوء، حريصا على صحبة الأخيار.
فكم من شاب وقع في حبائل المخدرات والمسكرات تقليدا لغيره! وكم من شاب وقع في الفاحشة تأثرا بصحبته! وكم من مضيع للصلاة لأنه مفتون بهذا أو ذاك مشغول بهم!.
ولا ينبغي للإنسان الذي كرمه الله بالعقل أن يكون تابعا مقلدا على غير هدى ولا بصيرة، فقد ذم الله تعالى المشركين الذين امتنعوا عن الإيمان والهداية تقليدا للآباء والأجداد: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ}(البقرة: 170-171).
قال السعدي رحمه الله: (أخبر تعالى عن حال المشركين إذا أُمِروا باتِّباع ما أنزل الله على رسوله -ممَّا تقدَّم وصفه- رغبوا عن ذلك، وقالوا: بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا، فاكتفوا بتقليد الآباء، وزهدوا في الإيمان بالأنبياء، ومع هذا فآباؤهم أجهل النَّاس، وأشدُّهم ضلالًا، وهذه شبهة -لردِّ الحقِّ- واهيةٌ، فهذا دليلٌ على إعراضهم عن الحقِّ، ورغبتهم عنه، وعدم إنصافهم، فلو هُدُوا لرُشْدِهم، وحسن قصدهم، لكان الحقُّ هو القَصْد، ومن جعل الحقَّ قصده، ووازن بينه وبين غيره، تبيَّن له الحقُّ قطعًا، واتَّبعه إن كان مُنصفًا.
ثمَّ قال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ}(البقرة: 171).
فلمَّا بيَّن تعالى عدم انقيادهم لِمَا جاءت به الرُّسل، وردَّهم لذلك بالتَّقليد، عُلِم مِن ذلك أنَّهم غير قابلين للحقِّ، ولا مستجيبين له، بل كان معلومًا لكلِّ أحدٍ أنَّهم لن يزُولُوا عن عنادهم، أخبر تعالى أنَّ مَثَلَهم عند دعاء الدَّاعي لهم إلى الإيمان، كمَثَل البهائم التي ينعِق لها راعيها، وليس لها علمٌ بما يقول راعيها ومناديها، فهم يسمعون مجرَّد الصَّوت الذي تقوم به عليهم الحجَّة، ولكنَّهم لا يفقهونه فقهًا ينفعهم، فلهذا كانوا صمًّا لا يسمعون الحقَّ سماع فهمٍ وقبول، عُمْيًا لا ينظرون نظر اعتبار، بُكْمًا فلا ينطقون بما فيه خيرٌ لهم).
ومما يدل على ذم التقليد الأعمى قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ}(المائدة: 104).
فهؤلاء المقلدون التابعون بلا رأي ولا هدى ولا بصيرة عند دعوتهم إلى الحق والخير والهداية والنور يقولون: يكفينا ما وجدنا عليه الآباء والأجداد مِن الطَّرائق والمسالك، قال الله تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا..} أي: لا يفهمون حقًا، ولا يعرفونه، ولا يهتدون إليه، فكيف يتَّبعونهم والحالة هذه؟! لا يتَّبعهم إلَّا مَن هو أجهل منهم، وأضلُّ سبيلًا. والآيات في ذم التبعية والتقليد كثيرة.
وهؤلاء الإمعات سيتبرأ منهم من قلدوهم في الباطل، قال الله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (البقرة: 166، 167).